عندما علمت «ساميا» أنّ زوجة ابنها حامل بصبي بعد أن أنجبت فتاة، فرحت فرحاً عظيماً. فـ»الصبي يُخلّد ذكرى أبيه، لأنه يحمل اسم عائلته، ويورثه لأبنائه». إنّ حب إنجاب الصبيان والفتور أو حتّى الامتعاض لدى قدوم بنت ليس حكراً على الرجال بل تحمله غالبية الجدّات في نفوسهنّ، و أمهات كثيرات وربّما إلى حدّ يفوق الرجال بكثير.
نعم، يبدأ التمييز بين الفتاة والصبي منذ ما قبل ولادتهما، فالفتاة مضطهدة منذ تكوّنها جنيناً في بطن أمها قبل أن تبصر النور. وبعد ولادتها يُلقّنها أهلها والمجتمع تربية الكبت والطاعة والخضوع التي تَحكمها بالعيب، وبكلام الناس وبالانصياع لسلطة أهلها، حتى تتزوج وتصبح بعد الزواج تحت إمرة زوجها وفي خدمة منزلها.

الطاعة والشرف

عماد (40 عاماً) يريد أن تستأذنه ابنته (7 سنوات) قبل أن تأكل أي شيء يقدّمه لها أقاربها، فهي إن زارت منزل عمتها مثلاً وقدّمت لها هذه الأخيرة «عروس لبنة» لا تأكلها بانتظار إذن والدها. أما شقيقها (4 سنوات) فلا مانع إن أكل ما يحلو له في منزل أقاربه، ويردّد الوالد فخوراً: «هوّي رجال وبدو ياكل تيكبر». وطبعاً لا يعلمونه أخذ الإذن ليصبح رجلاً قوياً لا يستأذن أحداً بل يقرّر بنفسه، حتّى أنه يأمر.

ولا عجب إن كانت نزعة الأهل للسيطرة على الفتاة وقراراتها ترتبط بعقد نفسية وجنسية واجتماعية لديهم، وبموروثات بالية. فعقولهم الباطنية تدفعهم إلى كبتها وتعليمها «أخذ الإذن» حتى يُحكموا هيمنتهم على حياتها الشخصية في المستقبل صوناً لما يسمّونه «شرف العائلة» الذي يربطونه بها.

أمّا شقيقها حامل اسم العائلة، فمِن شرفها براء، ويمكنه فعل ما يحلو له، لا يردعه الأهل والمجتمع عن شيء من سهر، وسفر وتعدد علاقات وحتّى الضحك على «بنات الناس» ليتسلى ويُشَرِّج «الأنا»... بينما يُمطرون البنت بلائحة الممنوعات والإرشادات اللامتناهية: «لا ترتدي القصير، لا تعودي متأخّرة من السهرة، لا تُحدِّثي هذا الشاب...».

ومن الأكل إلى اللباس وحرية الخروج والمصروف يتابع التمييز في تربية الصبي والفتاة طريقه. تربية الفتاة هذه، تجعلها خجولة وضعيفة تهاب سلطة الأقوى منها، بينما يُربّي الأهل والمجتمع الصبي على أنه الأقوى، فيُعطى الحرية، ويلقّن صفات الاستقلال الذاتي، وسرعة اتخاذ القرارات، واللامبالاة، و«عدم سماع الكلمة»، والتفلّت من المسؤوليات ما يجعل التعامل مع الفتاة أسهل على الآباء. وغالباً ما يعترف الأهل بأنّ تربية الولد والتعامل معه أصعب، متجاهلين أنهم هم من زرعوا فيه شعور السيطرة والفوقية والتمرّد لا سيما تجاه أخته.

ففي البيت عَلّمت الأم الفتاة الصغيرة الاهتمام بأخيها الصغير، والمطلوب منها أن تبدأ بتجسيد دور الأم التي ترعى البيت والصغار، حتى أنها بدأت تعلّمها الجَلي وتطلب منها جلب الأغراض لأخيها، بالإضافة الى أمور لن يفعلها الصبي. وهي إن طالبها أهلها بالاهتمام به وتأدية دور الأم وهو صغير، فينتظرون منه أن يؤدي معها دور الـ Bodyguard حين تكبر، فيرافقها إلى السهرات ليسهر على «شرف العائلة».

تداعيات بالجملة

تُعرف الفتاة بأنها رقيقة وحنونة وناعمة، ويُنمّي الأهل فيها هذه الصفات فتحمي نفسها وتحرص على عدم تعريض جسدها لما يُسيء لروحها. ويعلّمونها أنّ «لها الأنوثة»، وأنها لا تصرخ وأنها «تسمع الكلمة».

وقد تتفاعل هذه التربية في نفسها إلى حد إفقادها ثقتها بنفسها، فتتجاهل أحياناً حاجاتها الذاتية بسبب الخجل من المطالبة بها وعدم التمتع بالجرأة الكافية وتجنّباً للمشاكل، أو حتّى تجنّباً لإزعاج الآخرين. وقد يتطور بها الأمر، فتصبح اعتمادية غير قادرة على اتخاذ أي قرار، تنتظر من يحسم الأمور عنها حتى في مسائل حياتها الخاصة.

أمّا الصبي الذي يرددون على مسامعه منذ صغره حين يقع أرضاً أنّ الرجال لا تبكي وأنّ الرجال لا تعبّر عن ألمها وأنه قوي، فيتعلم كبت مشاعر الحزن ليفجّرها غضباً وردود أفعال.

وفي نهاية المطاف يشعر الشاب عندما يكبر أنه المخلوق الأقوى، فيتعامل مع المرأة على أنه رأسها على رغم كونها خُلقت برأس وقادرة على التفكير. ويعتبرها أهلها وزوجها ضعيفة فيحدّونها عن فِعل الكثير من الأشياء ويضعون شتّى أنواع المعوقات في طريقها فقط لأنها فتاة، وهم لو يتركونها تفعل ما هي قادرة على فعله لغيّرت حياتها ووجه العالم.

وتؤكد الكاتبة وصاحبة النظريات النسوية سيمون دو بوفوار أنّ «المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك»، بينما يشير العالم والفيلسوف ابن رشد، في القرن الثاني عشر، إلى أنّ «تربية الكبت وحدها التي أقعدت النساء، فإذا غيّرنا هذه التربية كانت المرأة قادرة على القيام بمسؤولياتها كاملة في الانتاج المادي والعقلي وحتّى في قيادتها للدولة والأمة». ومنذ ذلك الحين ما زالت تربية الكبت منتشرة بكثافة ولو تفاوتت درجاتها حسب العائلات والمناطق، مكبّلة النساء، ومُكبّرةً «راس» الرجال.