حزب الله يتخوف من انفلات سطوته الثقافية والأيديولوجية على المجتمع الشيعي وداخل بيئته، لذا يستكمل اليوم عناصر دولته بإنشاء الباسيج اللبناني، وهي خطوة تعكس مدى شعوره بعدم القدرة على الانسجام مع قواعد وشروط الدولة اللبنانية.
 

لم يوقف تملص حزب الله من علاقته بما جرى في الضاحية الجنوبية من استعراض لقوة أمنية منظمة تابعة له في منطقة برج البراجنة، الأسئلة والمخاوف من أبعاد هذه الخطوة ودلالاتها. نفيُ حزب الله، الذي صدر عن أحد نوابه، وصف ما جرى “بخطوة عفوية” من قبل أحد مسؤولي حزب الله لمواجهة ما سماه ظاهرة الانفلات في تلك المنطقة، لا سيما تجار المخدرات والتعديات التي تقوم بها بعض العصابات على المواطنين. وليس خافيا رغم ما قيل عن وجود فاعل للقوة الأمنية الرسمية في الضاحية الجنوبية، أن السلطة الفعلية في هذه المنطقة هي لحزب الله، وتبدو فيها القوى الأمنية والعسكرية الرسمية أقرب إلى أن تكون قوة تتحرك عندما يحتاجها حزب الله ولأسباب خاصة هو من يقدرها، وليست الحكومة اللبنانية التي هو شريك فيها أصلا.

يبقى أن الأسئلة لما تزل قائمة من دون أن يقدم حزب الله أجوبة مقنعة، خصوصا أن انتشار نحو مئة عنصر بطريقة استعراضية في منطقة برج البراجنة، وبزيّ موحد وبوجوه مقنعة، لا يمكن أن يتم كردة فعل عفوية، لا سيما أن المعلومات تشير إلى أن هذه الخطوة كانت مسبوقة بسلسلة لقاءات منظمة في مقر عام هو مركز بلدية برج البراجنة، أي في مكان لا يمكن أن يجمع هذا العدد من العناصر بشكل سري، كما أنّ أي عملية دهم أو اعتقال لم تقم بها هذه المجموعة الأمنية التي اكتفت بالاستعراض في بعض الشوارع في ليل الجمعة السبت من دون أي إجراء ضد من يسميها حزب الله عصابات المخدرات، خصوصا أن الكثير من اللبنانيين يعتبرون تحرك تجار المخدرات في مناطق حزب الله، لا يمكن أن يقـوى ويتحصن في تلك المناطق من دون غطاء ما من حزب الله، خصوصا أن مثل هذه العصابات تجد مناطق حزب الله مناطق آمنة لها بخلاف المناطق غير الخاضعة لسلطة هذا الحزب.

المعروف أن منطقة الضاحية الجنوبية التي لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلومترات مربعة وتضم نحو مليون مقيم، كانت دائما ولا سيما في السنوات القليلة الماضية، محل حديث مستمر من قبل الحكومة وحزب الله يقول بضرورة أن تمارس القوى الرسمية الأمنية والعسكرية والسلطات القضائية دورها في هذه المنطقة بشكل كامل، وطالما تحدث وزير الداخلية والبلديات عن خطط أمنية وانتشار الدولة بشكل فاعل في هذه المنطقة، لمواجهة الحالات الإجرامية وظاهرة الانفلات الأمني والعسكري، ومنع تحول هذه المنطقة إلى منطقة آمنة للخارجين على القانون ومنطلق لأعمالهم الإجرامية في مناطق أخرى، وفعلا قامت الحكومة بخطوات على هذا الصعيد في مراحل متعددة، لكن هذه الخطوات كانت دائما لا تعكس وجود قرار إستراتيجي يقوم على تولي الدولة الجانب الأمني بالكامل في هذه المنطقة، بل أثبتت الوقائع أن ما قامت به الدولة من عمليات محدودة أمنيا، لم يكن سوى تلبية لحاجة آنية لحزب الله، بحيث تنتهي المهمة عندما يرى حزب الله أن الحاجة انتفت لبقاء أجهزة الدولة.

حزب الله حقق ما يريد على مستوى تثبيت قواعد سياسية في الدولة تتلاءم مع وجوده في سوريا، بعدم التعرض لما يسميه سلاح المقاومة، ويعتز بعلاقته الممتازة مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، كما أنه مرتاح لتفاهمه مع رئيس الحكومة القائم على التسليم بخصوصيات حزب الله الأمنية والعسكرية، ويثني حزب الله أيضا على الأجهزة الأمنية والجيش، بمعنى أن الحزب ليس لديه أي اعتراض على المؤسسات الرسمية، وهذا ربما ما يجعله أكثر إحراجا إزاء عدم قبوله الفعلي حتى الآن بأن تأخذ هذه الأجهزة دورها بالكامل في مناطق نفوذه.

ما لا تريد السلطة اللبنانية أن تواجهه في هذه المرحلة هو حزب الله وحساباته الأمنية والعسكرية، ولعل ردود الفعل على الانتشار العسكري الاستعراضي والمعلن في الضاحية الجنوبية، لم يقابل بمواقف صلبة من الحكومة، بل بمواقف شكلية لا تدل على حزم في رفض مثل هذه الظواهر، وفي المقابل تشير المعلومات من أوساط داخل حزب الله، إلى أن ما جرى لم يكن عملا عفويا ولا ذاتيا من قبل أطراف معينة في حزب الله، خصوصا أن الحزب معروف بأنه يتسم ببنية أمنية لا تتيح لعناصره أو مسؤوليه الاجتهاد في التصرف، لذا فإن خطوة الاستعراض الأمني التي تمت كانت مدروسة وبقرار قيادي من أعلى المستويات.

الجديد أن حزب الله يتجه إلى تشكيل قوة أمن اجتماعي، والمعلومات تؤكد أن تشكيلا أمنيا يتكون في المرحلة الحالية من 500 عنصر وضابط، مهمتهم حفظ الأمن الداخلي والاجتماعي، إذ يتم تشكيل وتدريب هذه القوة من قبل ضباط من الباسيج الإيراني، فكما أن حزب الله في تنظيمه وتدريبه كان منذ نشأته ولا يزال بإشراف الحرس الثوري، فإن الباسيج أخذ على عاتقه مهمة التدريب والإشراف على جهاز جديد في لبنان يتبع له من الناحية الأيديولوجية والتنظيمية، فهذا الجهاز الذي له دور فاعل في حماية الأيديولوجيا والأخلاق والمظاهر الإسلامية في الشارع الإيراني، ودائما تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تتخذ في غالب الأحيان أبعادا قمعية غايتها مواجهة أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية تهدد السلطة في إيران.

الباسيج اللبناني هو ما تشرف عليه إيران اليوم في لبنان، وتشير المعلومات إلى أن حزب الله يتخوف من انفلات سطوته الثقافية والأيديولوجية على المجتمع الشيعي وفي داخل بيئته، لذا هو يستكمل اليوم عناصر دولته بإنشاء الباسيج اللبناني، وهي خطوة تعكس مدى شعوره بعدم القدرة على الانسجام مع قواعد وشروط الدولة اللبنانية، فيذهب إلى إنشاء ما يسميه أجهزة خاصة أمنية واجتماعية في خطوة تعكس عدم قدرته حتى على الانسجام مع دولة بات يسيطر على مفاصلها بشكل شبه كامل ويتحكم بمفاصل القرار فيها.

خطوة إنشاء الباسيج اللبناني، هي خطوة ستكشف عن نفسها في المرحلة المقبلة، لا سيما أن حزب الله بدأ يُشيع داخل بيئته أن المطلوب حماية المجتمع من “الحرب الناعمة” التي تخاض ضد مجتمعه وبيئته، وهو مصطلح يقصد منه مواجهة كل ما يسميه ثقافة غربية أو سلوكيات اجتماعية تتنافى مع أيديولوجيته، ويقدم هذه المجموعات للبنانيين بطريقة غير مباشرة عبر القول إن هذه المجموعات عناصرها من المجتمع وليست حزبية حصرا، بل هي تعبير عن رغبة المجتمع بمواجهة الفساد الذي يتسلل إليه، وهو عنوان قد يجد لدى بعض البسطاء من الناس آذانا صاغية، لكن في التجارب المشهودة على هذا الصعيد ولا سيما في نموذج داعش والباسيج الإيراني، هي تعكس إرادة سياسية غايتها الإبقاء على صيغة “المجتمع الخاص” أو بالأحرى “شعب الله المختار” كما في الرواية الصهيونية، وفي المحصلة تعكس أزمة حزب الله الذي يذهب في المأزق إلى المزيد من الغرق فيه، لا يريد الدولة ويبني دولته الخاصة، يحارب داعش على ما يعبئ جمهوره، ويجد نفسه أسير سلوكياتها الاجتماعية وانغلاقها، يعلن العداء لإسرائيل، فيما يعلي من شأن ثقافة الانغلاق والمجتمع الخاص على حساب المجتمع اللبناني والدولة الجامعة.