حزب الله لا يريد الانتخابات لأنها ستجعل جزءا أساسيا ممن حوله اليوم في حل منه بعد الانتخابات، ولن يعدم وسيلة لتأجيلها عاما، مع أنه قادر على فرض إجرائها بالقانون الذي يشاء بعد أشهر قليلة.
 

يشكل الجدل حول قانون الانتخاب في لبنان، العنوان الأبرز للسجال السياسي، لكنّه في الوقت نفسه، جدل يفتقد فرصة وهدف التوصل إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المفترض في شهر مايو المقبل، بسبب رفض رئيس الجمهورية العماد ميشال عون توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة بناء على القانون الساري المفعول من جهة، ولا مبالاة القوى السياسية داخل السلطة بصوغ مشروع قانون جديد لا خلاف جوهريا على صيغته في ما بينها من جهة ثانية. علماً أنّ رئيس الجمهورية قال غداة انتخابه قبل أشهر، إنّه يفضل الفراغ على إجراء الانتخابات بناء على القانون الحالي.

الجدل الانتخابي حول القانون يتركز نظرياً على هدف التوصل إلى قانون جديد، يجمع بين النظامين النسبي والأكثري، ولكن الخلاف الذي يحول دون التوصل إلى صيغة يتفق عليها الفرقاء السياسيون، تكشف أنّ جوهر الخلاف ليس الاتفاق على صيغة للقانون من السهل الاتفاق عليها، ولا سيما أنّ حدود الخلاف تتركز على عدم خسارة هذا الفريق أو فوز الفريق الآخر نسبة 10 بالمئة من نوابه، أو ربح النسبة نفسها، وهي في ترجمتها اللبنانية تعني نائبا في الحد الأدنى أو ثلاثة نواب في الحدّ الأقصى داخل كل كتلة نيابية تتجاوز العشر كتل في برلمان يبلغ عدد أعضائه 128 نائباً.

وبتوضيح أكثر إنّ الإطار الذي يجري داخله إعداد قانون الانتخاب ينطلق من ثابتة أساسية أكدت عليها جميع القوى في مجلس النواب الحالي وفي الحكومة، أن لا قانون انتخاب يمكن أن يقر، ما دام يمكن أن تُشتم منه أيّ شبهة لإلغاء أيّ طرف سياسي أو تهميشه.

إذن الخلفية التي تحكم عملية إعداد قانون جديد للانتخابات، لا تنطوي على أيّ مخاطر من قبيل المفاجآت غير المحسوبة، ذلك أنّ رسم الدوائر واعتماد النظام الانتخابي الملائم، يسيران على سكة توصل إلى محطة واحدة فقط ولا لبس فيها، هي إعادة إنتاج السلطة نفسها وهذا محل إجماع بين أطراف السلطة الذين يشكلون الحكومة ومجلس النواب. من هنا يصبح السؤال ما الذي يمنع من الاتفاق على قانون انتخاب ما دامت التوافقات السياسية هي التي تحكم أيّ انتخابات؟

يفتح هذا السؤال على حقيقة أخرى تجري التعمية عليها، بقنابل دخانية يوفرها الجدل المقصود غير المبرر حول قانون الانتخاب، بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنّه لا يمكن الحديث اليوم في لبنان عن جبهتين سياسيتين تتنافس كل منهما على الفوز بالأكثرية النيابية، فليس هناك قوى 14 آذار، وليس من جبهة تسمى قوى 8 آذار، كما كان الحال في انتخابات 2009، كما لم يشكل في تلك الانتخابات فوز قوى 14 اذار، أيّ معنى أو أي دلالة سياسية على أرض الواقع، سوى أن الأكثرية النيابية لا تعني شيئا في مقابل بندقية حزب الله، القادرة وحدها أن تقرر وأن تحكم، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ عام 2010، يوم أقيلت حكومة سعد الحريري وجيء بنجيب ميقاتي رئيساً للحكومة.

عدم وجود عنوان سياسي للانتخابات النيابية المقبلة، حلّ مكانه اصطفاف سياسي يتركز على محاولة خوض الانتخابات على أساس التنافس داخل كل طائفة بين القوى المنتمية إلى هذه الطائفة أو تلك، ويتم هذا التنافس اليوم، انطلاقا مما سلّمت به قوى السلطة طوعاً أو مرغمة، أن حزب الله هو المرجعية التي تتولى الوصاية، وهو السقف الذي يجري التنافس تحته من دون أن يقترب أحدٌ من هذا السقف أو يمسه. لذا لا أحد من قوى السلطة يستعد ليخوض الانتخابات النيابية بعنوان المعارضة لحزب الله، بل تبدأ معركته من تحييد حزب الله والبحث عن خصم جديد، هذا الخصم هو بالضرورة منافس أو مشروع منافس من داخل الطائفة وتحت سقفها وفي إطارها.

الزعيم الدرزي وليد جنبلاط جل اهتمامه ألّا يخسر كثيراً من تمثيله النيابي، وأن يحافظ على هيبة زعامته الدرزية، لذا لا يفوّت فرصة إلاّ ويوجه رسائل ودّ سياسية تجاه حزب الله. رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع ليس أفضل حالا، وقد حدد أولويته منذ أيّد خصمه ميشال عون لموقع الرئاسة الأولى، حصد نحو خمسين نائبا بالتحالف مع التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية، وهذا يتطلب في حساباته السياسية عدم استفزاز حزب الله وعدم المواجهة معه.

بينما رئيس الحكومة سعد الحريري فقصارى ما يسعى إليه ألّا يتعرض لهزيمة انتخابية تهز مرجعيته السياسية كزعيم أول في الطائفة السنية، وهو على ما يبدو يجد في تفادي المواجهة الانتخابية مع حزب الله سبيلاً للحدّ من الخسائر الانتخابية لتياره، والمحافظة على موقعه كرئيس للحكومة في أيّ حكومة ستتشكل بعد الانتخابات النيابية.

أخيرا لا ننسى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي يتبنى استراتيجية كشفتها الوقائع منذ وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى بدعم أساسي وفّره له حزب الله، هذه المعادلة تقوم على أن رئيس الجمهورية يعطي حزب الله ما يطلبه من مواقف إقليمية يحتاجها الأخير، فيما يوفر حزب الله الغطاء الداخلي لرئيس الجمهورية فلا يعرقل مساعيه وطموحاته سواء على صعيد إدارة السلطة أو، وهو الأهم، عدم وقوف حزب الله في وجه طموحات تيار عون الانتخابية.

إزاء ما تقدم، ومع تسليم القوى المشاركة في السلطة بمرجعية حزب الله، وفي ظلّ المخاطر الإقليمية التي يتلمسها حزب الله بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والتي واكبها احتفاء إسرائيلي وانزعاج إيراني وارتياح تركي، جعلت حزب الله أكثر ليونة في مواقفه اللبنانية الداخلية، وفرض عليه القلق من الخارج سياسة التعامل بحنو مع حلفائه وخصومه في السلطة، فبات أكثر إحراجا لجهة تلبية مطالب الجميع، ولا سيما من وقف معه من حلفائه الذين باتوا قلقين من اقترابه ممن كانوا خصومه، بل من أعدائه قبل سنوات قليلة، وهؤلاء الحلفاء كانوا يمنون النفس بأن يتلقوا دعما في الانتخابات المقبلة مكافأة لمواقفهم الثابتة معه.

حزب الله يمسك بمفاصل اللعبة بالكامل، وكما لم يتحقق له ذلك من قبل، وهو ما يشكل له إغراء بعدم إجراء الانتخابات النيابية، رغم إدراكه أنّه يتحكم في اللعبة الانتخابية لجهة عدم تأثير نتائجها مهما كانت على المعادلة السياسية التي يفرضها بقوة السلاح، غير أنّه وبسبب ذلك أيضاً يدرك أنّه عاجز عن إرضاء جميع من يتوقعون دعمه لهم في الانتخابات المقبلة، وبعد الانتخابات سيكون هناك رابحون وخاسرون، وجيش الخاسرين من مؤيدي الحزب ومعارضيه سيوجهون السهام ضده، وهو في غنى عن ذلك في مرحلة المخاطر الخارجية.

وثمة سبب آخر أنّ حزب الله الذي يعاني من ضائقة مادية لا يريد أن يدخل في أجواء الانتخابات تفاديا للكلفة المالية التي تتطلبها الحملات الانتخابية ومطالب المناصرين، ومطالب الحلفاء، فضلاً عن قلق موجود لدى حزب الله من تململ قاعدته الشيعية التي لا يسعدها النطق السياسي لحزب الله، ولا الحال الاقتصادي المتردي على المستوى اللبناني.

حزب الله يتهم بعض شركائه في السلطة بعدم حماستهم لإجراء الانتخابات النيابية ويشير إلى تيار المستقبل وقد يكون محقاً، لكن ما لا يقوله حزب الله أنّ الانتخابات النيابية عنصر إرباك له مع حلفائه قبل خصومه، ففي مرحلة التشوهات التي سببتها الأزمة السورية، على بنيته وعلاقاته، وغرقه في دمائها وسببت المزيد من الطوق حول مصالحه عربيا ودوليا، لا يريد أن يدخل في انتخابات لا يراها ضرورية، فكيف إذا كانت متطلباتها مكلفة تنظيمياً وسياسياً ومالياً.

لذا فإن حزب الله لا يريد الانتخابات النيابية لا خوفاً من خسارة مقاعد نيابية، بل لأنّها ستجعل جزءا أساسيا ممن حوله اليوم في حل منه بعد الانتخابات، وهو لن يعدم وسيلة لتأجيلها عاما، علما أنه قادر على فرض إجرائها بالقانون الذي يشاء بعد أشهر قليلة.