فتح ملف اللجوء السوري، والاستثمار الإيراني في المعارضة السورية، يأتيان في سياق ترتيب ميداني يطمح حزب الله من خلاله إلى بناء تفاهمات على الأرض السورية، بشراكة داخلية مع النظام من جهة ومعارضي غب الطلب من جهة ثانية.
 

بدأت مرحلة الاستثمار في المعارضة السورية من قبل إيران وذراعها الأبرز في المنطقة حزب الله، وبدأ تحضير بيروت لعلها تصير منصة للمعارضة السورية. فالجمعة الماضي عقد في بيروت مؤتمر غبّ الطلب، ضمّ شخصيات مقربة أو تابعة لنظام بشار الأسد في الخارج، أو ممن يطلقون على أنفسهم “معارضة الداخل”.

وجاءت “ولادة” المنصة الجديدة، خلال عقد 40 من الشخصيات المؤيدة لنظام الأسد، في العاصمة اللبنانية بيروت، اجتماعا تحت عنوان “جميعا نبني لسوريا”، وذلك بحضور ممثلين عن 15 هيئة دبلوماسية، من بينهم السفير الروسي في لبنان، ألكسندر زاسبكين، إضافة إلى دبلوماسيين معنيين بالملف السوري في سفارات إيران والصين واليابان والدنمارك وألمانيا والسويد وكازاخستان والاتحاد الأوروبي وإسبانيا، مع غياب تام لأي تمثيل دبلوماسي عربي وأميركي وتركي.

كما أسلفنا عُقد المؤتمر دون إعلان مسبق، وجرى تحت رعاية أمنية من قبل حزب الله، الذي تولى بشكل غير مباشر عملية انتقال المعارضين من دمشق إلى بيروت، فضلا عن حماية مقر الاجتماع في فندق الريفييرا في بيروت. وبسرعة فائقة وغير مسبوقة بأيّ نقاش علني، تمّ المؤتمر خلال ساعات قليلة، ومن دون أيّ جدل أو سجال عادة ما يواكب أيّ مؤتمر. فكيف إذا كان تحت عنوان “المعارضة السورية”. كل شيء كان مجهزا بالكامل، لا وجود لأيّ تباين في الآراء، ولا لاجتهادات مختلفة بين المؤتمرين، وهذا أبرز مؤشر إلى أنّ الجهد المبذول لعقد المؤتمر بهذه الطريقة هو حصيلة عمل أمني مخابراتي ولغاية سياسية، تتمثل في ترتيبات أقرب ما تكون إلى ترتيبات أمنية في محضر سياسي.

على أنّ هذه المنصة وبما ضمته من شخصيات، تفرض تساؤلا يتعلق بأسباب عدم عقد المؤتمر في دمشق لا سيما أن غالبية الحضور جاؤوا من سوريا. أمّا الذين لم يأتوا من الأراضي السورية فهم كانوا عقدوا اجتماعات مع ممثلين للنظام السوري. فيما الرسالة الأهم التي حرصت على إعلانها أطراف منصة بيروت ما قاله الأمين العام لما يسمّى “حزب الشعب” السوري، نواف الملحم، وهو أنّ “مقام رئاسة الجمهورية السورية لا يجوز البت فيه في المحافل الدولية، بل يبقى محكوما دوما بإرادة السوريين، المتجسدة بانتخابات حرّة ونزيهة ومراقبة دوليا”. كما أكّد الملحم على “ضرورة صياغة دستور جديد من قبل هيئة منتخبة أو هيئة منبثقة عن هيئة منتخبة”. وشددت المبادئ أيضا على “مواجهة الإرهاب”. فيما أعلن لؤي حسين أحد أبرز الداعين للمؤتمر والمعروف بعلاقته الجيدة مع السلطات السورية في دمشق، بصراحة أنّ حرب المعارضة مع النظام انتهت وأنّ الحرب في سوريا هي مع الإرهاب لا سيما تنظيمي داعش والقاعدة.

وكنا أشرنا في مقالة سابقة هنا قبل أشهر، إلى أنّ إيران تفتقد لحاضنة سورية، يُشكل الرئيس بشار الأسد ضمانة بقائها، فيما تفتقد إلى أيّ حاضنة حتى داخل البيئة العلوية التي تميل إلى الخيار الروسي كمصدر حماية. ولا وجود شيعيا معتبرا في سوريا، كما أنّ الأقليات الدينية والقومية في سوريا ليست مصدر اطمئنان للنفوذ الإيراني، فيما راحت روسيا اليوم، بعدما أعادت تموضعها، تفتح قنوات اتصال مع المعارضة السورية المعتدلة، الطرف الذي يشكل غطاء دوليا للوجود الإيراني في سوريا. فروسيا التي استثمرت في القوة الإيرانية وميليشياتها خلال معاركها السورية، ليست في وارد إحداث قطيعة معها اليوم، وهذا مفهوم بالمعنى الاستراتيجي المتصل بعدم اتضاح صورة الموقف الأميركي تجاه سوريا والمنطقة عموما بشكل كامل. فإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي صوبت نحو إيران بشكل صريح، لم تظهر أيّ ليونة تجاه الموقف الروسي، بل كان اتصال الرئيس الأميركي الجديد بالرئيس الأوكراني في بداية عهده رسالة لا يمكن لروسيا أن تطمئن لها. بهذا المعنى فإن روسيا تستجمع كل الأوراق الكبيرة كعلاقتها بتركيا، والصغيرة كمنصة بيروت، في سبيل الجاهزية للحوار مع واشنطن أو لجمها.

والمتابعون في بيروت يلاحظون كيف يحاول حزب الله ومن ورائه إيران، استباق الهجوم الأميركي، بإطلاق مواقف جديدة غير مسبوقة من قبل حزب الله تتصل بعودة اللاجئين السوريين إلى مناطق قام حزب الله بتهجيرهم منها. إذ أطلق أمين عام حزب الله دعوة لعودة النازحين في لبنان إلى سوريا. وأكّد في موقف أضفى عليه بعدا إنسانيا حين قال في خطاب متلفز الأحد إن “الوضع المناسب هو أن يعود أغلب النازحين إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم وألا يبقوا نازحين فالكرامة الإنسانية والمسؤولية الإسلامية تقتضيان ذلك”. واستكمل هذا البعد الإنساني، برسالة سياسية حين خاطب السلطة في لبنان قائلا “على الحكومة اللبنانية وضع المكابرة جانبا ولتتناقش مع الحكومة السورية لمعالجة أزمة النازحين ووضع خطة واحدة لأنّ لبنان لا يمكنه حل المشكلة لوحده”. معلنا “أنّنا كحزب الله لدينا علاقات مع الدولة السورية لذا نحن حاضرون لخدمة الحكومة اللبنانية لمساعدتها للتواصل مع النظام السوري حول النازحين”.

الخطوة الإيرانية عبر حزب الله تستبق خطر الاندفاعة الأميركية التي وضعت عنوان إخراج الميليشيات غير السورية من سوريا، وسمّت الإدارة الأميركية حزب الله بالاسم، مع الإشارة إلى أنّ الورقة الروسية – التركية المشتركة تجاه سوريا تبنت هذا التوجه قبل الموقف الأميركي، حيث اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أنّ “منع إيران من المشاركة في محاربة داعش غير بناء”، وشدّد على أنّه يجب على واشنطن الاعتراف بأنّ حزب الله المدعوم من إيران يحارب ضد داعش في سوريا. من هنا يمكن القول إنّ الموقف الروسي يبقى مترددا على هذا الصعيد ودائما بانتظار أن تفصح الإدارة الأميركية عن وجهها بالكامل.

تزامنا مع مؤتمر منصة بيروت استضافت بيروت الخميس الماضي في فندق ريفييرا، اجتماعا بين معارضين سوريين وموالين للبحث في “مبادرة للسلام”، هدفها إعادة ألف عائلة لاجئة في لبنان إلى سوريا بضمانة روسية، كخطوة اختبارية، وذلك بحضور مستشارين في السفارات الروسية والألمانية والبلغارية لدى لبنان، إلى جانب ممثلين عن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة وممثلين عن مبادرات سلمية، وفي غياب ممثل عن الدولة اللبنانية.

فتح ملف اللجوء السوري هذا، والاستثمار الإيراني في المعارضة السورية، يأتيان أيضا في سياق ترتيب ميداني يطمح حزب الله من خلاله إلى بناء تفاهمات على الأرض السورية، بشراكة داخلية مع النظام من جهة ومعارضي غبّ الطلب من جهة ثانية، وبغطاء روسي دولي، يحاول من خلاله تأمين شروط انسحاب آمن مع ضمان عودة واسعة للاجئين السوريين في لبنان إلى مدنهم وبلداتهم، ودائما ضمن صيغة يبقى نظام الأسد شريكا فيها وحزب الله كذلك.