رُب قائل يقول هل من الجائز عند الحديث عن المنطقة العربية استعمال كلمة الوطن بالمفرد، أم الأسلم اعتمادها بصيغة الجمع، أي الأوطان؟
 

 أما مبرر هذا التساؤل فمرده حجم الدمار الذي لحق أجزاء من أوطاننا، ودرجة العنف والإبادة الجماعية التي تخترق مجتماعتنا، وفداحة الخسائر التي طالت البشر والحجر على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، وما زالت مستمرة، ولا يُعرف على وجه اليقين متى ستتوقف فصول هذه النكبة.

لينظر معي القارئ الكريم إلى ما يجري في المنطقة العربية ويقارن بما هو حاصل في مختلق بقاع العالم، فسيلاحظ، دون شك، أن بلداننا نشازٌ بكل المقاييس، وأن من الصعوبة العثور على نظير لها، من حيث حدة الصراع وقوة الدمار في كل أرجاء العالم. ولنتذكر أن في عام 1916 من القرن الماضي أخضعت المنطقة لنوعين من الاستعمار، أحدهما مَزق وحدة نسيجها الترابي، وحولها إلى كيانات متعددة ومنقسمة، حصل هذا في الجناح الشرقي للوطن العربي (اتفاقية سايكس بيكو ودخول الاستعمار الفرنسي ـ  الإنجليزي)، والثاني أجهز على هُويتها، وعلى كل ما يرمز إلى مقومات شخصيتها العربية الإسلامية، ونعني بذلك الاستعمار الفرنسي والإيطالي في بلاد المغرب (1911 ـ 1912). والمحزن حقا أنه انتهى قرن بكامله لتجد المنطقة العربية نفسها في وضع  أقبح مما كانت عليه سنة 1916، أي وقت استعمارها وتفتيت وحدتها بمقتضى اتفاقية سايكس ـ بيكو.

لذلك، تبدو المنطقة العربية، وهي تعيش الأيام الأخيرة من عام 2016، مُثخنة بالجروح، فاقدة عناصر القوة، ومرشحة لأن تدخل عديدُ بلدانها دائرَةَ الفشل، وربما لأن "يخرج  العرب من التاريخ"، على حد تعبير الشاعر "أدونيس". لننظر إلى حدثين اثنين ميزا سيرورة ما يجري في البلاد العربية خلال العقدين الأخيرين، ولنحكم على ما آلت إليه أوضاع مجتمعاتنا، وإلى أين تسير.  

لننظر مثلا إلى كيف ينظر العرب إلى أنفسهم، وكيف يتعاملون مع أبناء جلدتهم. فقد عاشت مجتمعات المنطفة عقودا من الزمن متجانسة ومتسامحة، على الرغم من كثرة عناصر الفُرقة والاختلاف. لم يكن للطائفية، أو العصبوية، أو الصراع العَقدي، أو أي شكل من أشكال الاختلاف في الدين أو المذهب أو اللغة أو الجنس أي تأثير سلبي على حياتهم الجماعية، كما لم يكن أي خطر على وحدة كياناتهم.. ففي المشرق ظلت الطوائف والديانات والقبائل والعشائر متعايشة ومتسامحة، ولم يحدث أن نشبت حرب أهلية أو اندلعت فتنة تحت أي مسمى من هذه المسميات.. بل أثبت التاريخ وجود فصول طويلة من العيش المشترك، على الرغم من الطابع القهري للسلطة في الكثير من الدول. كما لم يحصل أن كان الدين سببا من أسباب الانقسام، وحرب البعض ضد البعض الآخر، ووسيلة لـ"شرعنة القتل العمد"، الفردي والجماعي"، كما حصل في السنوات الأخيرة وما زال مستمرا أمام أعين العالم، ومبثوثا على أكثر مواقع التواصل الاجتماعي ترددا وقراءة.

يتعلق الأمر الثاني، علاوة على الفتن الناجمة عن الانقسام حول مقومات الهوية، بمآلات ما سمي "الربيع العربي"، الذي لم يينع ويشتد عودُه، كي يتأتى قطاف ثماره. فقد شهدت البلاد العربية حراكا اجتماعيا امتد إلى سبعة عشر قطرا، من المحيط الأطلسي إلى أقصى الخليج العربي. والواقع أن كل ظروف اندلاع مثل هذا الحراك كانت متوفرة، وشبه ناضجة، غير أن الحراك، أو ما سمي "الربيع العربي"، كان في حاجة ماسة إلى عقل يصوغ له مشروعه، ويُعقله بالأدوات والوسائل القادرة على حمله إلى بر الأمان.. وهذا ما ظل الفريضة الغائبة، وقاد "الربيع" إلى خريف بدون طعم ولا رائحة. لينظر معي القارئ الكريم مرة أخرى إلى ما يجري في البلاد العربية، لاسيما تلك التي سميت بـ"بلدان الربيع العربي"، وليحكم بنفسه كيف كانت، وكيف أصبحت، وما سيقع فيها في علم الله وحده؟ 

لقد شاءت ظروف كاتب هذا العمود أن زار كل هذه الدول (ليبيا، اليمن، سوريا، العراق، تونس)، ليس لمرة واحدة، بل لمرات كثيرة، وأستطيع اليوم في سياق ما آلت إليه أوضاعها، أن أقارن بين ماضيها وحاضرها، كما في مُكني الحكم على الماضي في ضوء الحاضر.. عُمدة ما أستطيع قوله في هذا المقام أن "التغيير غير العاقل مفسدة، ما بعدها مفسدة"، وأن "الثورات بدون رؤية واضحة، ومشروع مكتمل الوعي والإرادة، لا تنجح، بل يكون مصيرها الفشل المحقق، وهذا ما هو حاصل وجار في منطقتنا العربية".

نودع عادة كل سنة بروح الأمل والتفاؤل في ما ستحمله السنة القادمة، وكثيرا ما نتمنى لنا ولغيرنا، ولكل من نُحب ونقدر أن يكون لاحقُه أفضل من سابقه.. وبذلك تتوق قلوب العرب من المحيط إلى الخليج أن يكون العام القادم (2017) أفضل من سابقه، وأن تجد بلداننا ومجتمعاتنا الطريق إلى الأمن والأمان أولا، وأن يعود العقل إلى رُشده لحقن دماء الناس، ورفع الغُمة عن قلوبهم وأفئدتهم، وأن تستعيد المنطقة العربية عافيتها وقدرة أبنائها على رسم طريق جديد ليكونوا شركاء إيجابيين في صنع وتطوير مكاسب الإنسانية.