ينشأ الناشئ فينا على تعظيم والديْه، مصدّقًا لما يقولانه بلا تردّد، ثم تتسّع حلقة التلقّي، حيث المدرسة، وقد يرِد على أحدنا من معلّمه معلومة، ومن والده أو والدته معلومة مغايرة، تجربتي كنتُ أرجّح رأي والدي على معلّمي المدرسة، ثم بعد فترة كان علي أن أبحث أيهما أقرب إلى الصواب، فلم أعدّ أثق في كل ما يقوله والدي ولا معلمي المدرسة، فقد يصيب هذا ويخطئ ذاك. ثم تتسع حقول المعرفة وتتنوّع أمام الواحد فينا (خطب الجمعة، أساتذة الجامعات، الفضائيات، الكتب والمجلات، مواقع التواصل الاجتماعي). يختصر البعض منّا كل هذا التنوّع ويعتبره (فوْضى أو تلّوث) فيعمد إلى شيخ أو جماعة، ويريح رأسه من كل هذه الضوضاء وهذه الفوضى. ولا بأس، لكن المشكلة أنه يظنّ أنه بهذا قد حاز العلم، فيبدأ بالإنكار على كل من خالفه، أيضًا لا بأس في الإنكار، لكن..يبدأ بالاتهامات من تفسيق وتضليل وتكفير، وفي أقرب فرصة لو قُتل مخالفه تنفس الصعداء، وضحك حتى بدت اللهاء.
أو إذا تشنج واستطاع سبيلاً إلى مخالفه لقتله بيده تقرّبًا إلى الله وما هو في الحقيقة الله بل هو (آلهة) وهو المذهب أو الجماعة.
مهما يكن. فالتقليد القائم على البرهان مطلوب، وغير القائم على البرهان غير مرغوب وعنه مهروب.
كل هذه المقدمة تمهيد لما سأبيّنه:
1- العالم حينما يجتهد فإنما يجتهد تبعًا لأصول وقواعد يتبعها، وفقهاء المذاهب يتفاوتون في ترتيب واعتبار هذه القواعد والمصادر.
2- العالم إضافة لتقرير مصادره وقواعده فإنما ينشئ الأحكام والفتاوى تبعًا لواقعه وظروفه. 
3- لا يجوز للمقلّّد أن يُنكر على المجتهد، بل عليه أن يتساءل ويستوضح، وقبل هذا عليه أن يقرأ كثيرًا، ويحاول الخروج إلى صندوق أكبر، لكن بعد أن يضع منهجًا يسير عليه، كل هذا يصعب على المقلّدين.
4- أقدّم مثالاً على كل ما سبق:
نجد في كلام كثير من العلماء السابقين ومن تابعهم (مقلّدين) بلا تبيّن ولا برهان، يقررون أن الدليل النقلي مقدّم على الدليل العقلي. 
والدليل النقلي عند كثير منهم هو ما صح "إسناده" وفق علم الرجال.
وهذا المنهج عليه مؤاخذات يعرفها كل من تعمّق في دراسات علوم الحديث الشريف في الجامعات العربية.
الدليل النقلي عندهم أن السنة "ما ثبت بالسند" لا تعرض على القرآن، بل قد تنسخ القرآن!!
أقول ينبغي أن يكون ما هو من الشرع القويم موافقًا لما هو عليه العقل السليم، ليس تنظيرًا كما يقول ابن تيمية (العقل الصريح لا يُعارض النقل الصحيح، بل يشهد له ويؤيده لأن المصدر واحد).
إذ أنه عمليًا ما زال في قوقعة قواعد المحدثين. حيث قال: "وإذا حدث تعارض فلسببين:
إما أن النقل لم يثبت. فنرجع إلى علماء الحديث وقواعد المحدثين!!!
وإما أن العقل لم يفهم النقل.
فالنقل حتى يثبت يا حبيبي لا بد أن يوافق ويساوق مقاصد القرآن وسننه لا قواعد المحدثين.
وعليه فالعقل والنقل (ما ثبت موافقًا لمقاصد القرآن وسننه) يتعاضدان ولا يتعارضان.
وفي هذا تحرير من ربقة تقليد المحدثين وأتباعهم المعاصرين. مع احتراماتي وتشكراتي لجهودهم.
نجد في كلام كثير من الأصوليين أن حفظ الدين مقدّم على حفظ المال وغيره من الضرورات!
فإلامام الآمدي يقدّم حفظ الدين على حفظ النفس. انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص274.
وابن أمير الحاج يقول: "ويقدم حفظ الدين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات:56، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين". ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير، ج3، ص 231.
والإمام الشاطبي: "النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتةَ الدين، كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها؛ كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد". الشاطبي، الموافقات، ج2، ص64.
كل اجتهادات هؤلاء الأصوليين الكبار نابعة عن ظروف مكانهم وناتجة عن صروف زمانهم، مع تأثرهم بسطوة المرويات على صفوة الآيات، فتراهم كما يوضح الإمام الشاطبي أن النفس تهدر كما في قتل المرتد، فنفسه لا قيمة لها أمام الدين، وقبله ابن أمير الحاج يرى أن الدين هو المقصود الأعظم!!
والحقيقة أن الإنسان هو الأعظم وأن الدين والشرائع جاءت لخدمة هذا الإنسان، لا أن يكون خادمًا لها، وأن حفظ النفس أعظم من حفظ الدين نجد القرآن يقول:
"مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿النحل: 106﴾.
فأتاح القرآن حفظ النفس في مقابل جريان ألفاظ الكفر على اللسان. 
وقوله تعالى:
"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَ[إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ] فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿الأنفال: 72﴾.
فمنع القرآن نصرة ورفع الاضطهاد على نفوس المسلمين تحت عنوان [النصرة في الدين] إذا كانت هناك عهود ومواثيق مع القوم. بل يعمد إلى طرق أخرى منها عنوان [حقوق الإنسان] ولو كانوا غير مسلمين، فالنصرة للنفس بغض النظر عن ديانتها، وتتأكد إذا كانوا مسلمين.
بإيجاز حفظ النفس قرآنيًا مقدّم على غيره، فلا وجود لدين بلا نفس، ولا وجود لنقل دون عقل. رسالة القرآن ومقصده الأعظم تخليص النفس من الشوائب، وصنع الذهن الصائب، وأحجار الكعبة لا تساوي قطرة دم إنسان مهما كان معتقده، ومدافعة الظلمة تكون وفق دراسة منظمة وفعّالة، لا باستجرار العواطف والقصائد والموسيقى الحزينة، ولا بالمؤتمرات ولا بالقنابل. أعداؤنا فهمونا أكثر، وخططوا وأحكموا الخطة. ونحن نقول الله أكبر، ومكره تعالى أكبر، لكن يا حبيبي الله يقول: "إن تنصروا الله ينصركم". يعني من يعمل على تفعيل السنن ينجح لا أحابي ولا أجامل أحدًا. ونحن نظن أن نصرة الله تكون بكثرة الصلاة والتسبيح والدعاء على المنابر.

 

 


أياد ابو ربيع