معتوه قوي خير من معتوه ضعيف!
رغم كل ما أشيع عن تمسك الأسد بالسلطة وعناده ومكابرته، إلاّ أن الواقع اليوم يكذب كل تلك الإشاعات المغرضة، فالرجل لم يتمسك بالحكم إلاّ لانعدام البديل الوطني الحقيقي الذي يحافظ على البلاد ويحميها من التمزق والضياع..

أما حينما يطمئن الأسد لمستقبل سوريا، حينما يجد اليد الأمينة والبديل الوطني،العلماني، الممانع، المقاوم، فلن يتردد لحظة عن التنحي، وها هو اليوم يؤكد مصداقيته، فيترك الحكم بروح رياضية لفلاديمير بوتين، وبشكل ودي، ويحقق انتقالاً سلساً للسلطة..

يعتكف الأسد اليوم في محراب القصر الجمهوري زاهداً بالسلطة والحكم، في انتظار باص أخضر أو طيارة شحن خضراء تنقله مباشرة إلى موسكو أو طهران..

وعلى وقع الانتصارات المتلاحقة للقائد الفذ فلاديمير بوتين على الشعب “الإرهابي” في حلب وغيرها من المحافظات السورية، بات من حق الرئيس العابر للقارات أن يضم سوريا إلى ملكيته الخاصة وسط تصفيق جمهور الممانعة وترحيبه اللامحدود بالاحتلال المباشر خدمة لقضايا العرب والعروبة!

روسيا وسوريا.. بلد واحد لا يختلف بينهما سوى ترتيب الحروف، أما تباعد الجغرافيا فتلك مسألة يبررها مرتزقة البلدين، وما أكثرهم..

بحسبة بسيطة، سنجد أن عدد المُهجّرين السوريين اليوم يزيد عن ضعفي عدد سكان إسرائيل، أما أعداد من قتلهم الأسد فيقترب من ربع عدد السكان في إسرائيل، فيما لا يقل عدد المعتقلين في سجون الأسد عن سكان تل أبيب، أو حيفا بالحد الأدنى..

أما لماذا فعل الأسد بالسوريين ما فعل، فمن أجل إفشال المؤامرة الكونية، التي استهدفت سوريا “الممانعة والمقاومة”، وآخر قلاع العرب ضد إسرائيل!!
تلك هي المسطرة التي يقيس من خلالها الأسد وأتباعه مفهوم الوطن، ومفهوم الخيانة، فتكون النتيجة ملايين الخونة السوريين الذين حق عليهم القتل أو السجن أو التهجير، ليتفرغ الأسد بعدها لقتال إسرائيل بلا منغصات ولا عملاء ولا خونة..

بعد ست سنوات من الحرب المفتوحة التي شنها بشار الأسد، بمساعدة القوى “الوطنية” الإقليمية، ضد الشعب السوري بهدف حماية سوريا من شعبها المنتفض ضد حكمه، وبعد ما يقارب مليون سوري راحوا ضحية تصديه للمؤامرة، فضلاً عن ملايين المهجرين ومئات الآلاف من المعتقلين على ذمة المؤامرة، يحقق الأسد ما هو أبعد بكثير من أهداف المؤامرة التي تفرغ لقتالها على مدار تلك السنوات..
تبدو صورة سوريا ما بعد سقوط المؤامرة أكثر تشوهاً من كل السيناريوهات التي كان النظام يتوعد السوريين بها فيما لو تمكنوا من إسقاطه، فسوريا اليوم هي نموذج فريد لمجموعة احتلالات دفعة واحدة وفي مكان واحد، فعلى مدار التاريخ السياسي لم يحدث أن تم احتلال دولة واحدة من قبل مجموعة من الدول، ولكن المعتوه الملهم فتح شهية العالم دفعة واحدة للدخول إلى سوريا كفاتحين ومخلصين، حينما عرض بلده للبيع في المزاد العلني لقاء حمايته وإبقائه في قصر المهاجرين ولو مجرد صورة.

لقد استطاع أسد روسيا تخليص سوريا ممن تبقى ممن شاركوا في المؤامرة الكونية التي طالبت بالحرية وبإسقاط الوريث، وبالتالي إسقاط تلك المؤامرة، وبات من حقه أن يدخل سوريا فاتحاً ورئيساً شرعياً يستمد شرعيته من إسقاط شرعية الشعب السوري وإسقاط حقه في العيش على أرضه، وبالقوة.
فلاديمير بوتين هو اليوم الحاكم الفعلي لسوريا، بمشاركة إيرانية فاعلة في اتخاذ القرار إلى حين إيجاد الصيغة النهائية لتقاسم الحصص مع روسيا..

تلك حقيقة يعيها جيداً كل مؤيدي بشار الأسد وكل من تمسك ببقائه بحجة المؤامرة، ومع ذلك لم يحرك واقع الاحتلال الصريح مشاعرهم الوطنية ولم يهيج إحساسهم الممانع كما حدث حينما اندلعت المظاهرات المطالبة بسوريا للسوريين لا لأشخاص أو أُسر بعينها، وهاهم يطبلون ويصفقون مهللين للمحتل، ولربما كانوا فرحين بالمعتوه الروسي، فمعتوه قوي خير من معتوه ضعيف..

لقد كان قدر سوريا عبر نصف قرن أن تكون تابعة لأشخاص، مملوكة من أشخاص، مزرعة لأشخاص، ذلك ما فرضه منطق الحديد والنار ومنطق الديكتاتوريات المستمدة أصلاً من المدرسة الروسية، وكنا نعتقد أن مدى التأثير الروسي سيقف عند تصدير الديكتاتوريات إلى الدول الأخرى، لا ممارسة الديكتاتورية على البلدان الأخرى، ولكن سوريا الأسد أبت إلاّ أن تذيق السوريين ألواناً مستوردة من الموت والقهر، فلجأت إلى المصدر، إلى الأصل، ولم تكتف باستيراد وسائل الديكتاتور وأساليبه، فجاءت بالديكتاتور ذاته، وهي تتوجه اليوم بطلاً على أشلاء ضحايا صواريخه الفراغية ومدنه المحروقة..

لقد فعلها الأسد وتنحى، في مقابل بقائه موظفاً تابعاً وخادماً، إنه يرد الجميل لأسياده الذين حموه طيلة سنوات الثورة، وخلصوه من ملايين من الشعب السوري، ولكن إحساس النصر لا يزال يغمره ويغمر مؤيديه..

وفي انتظار أن يفعلها الروس أو الإيرانيون ويتخلصوا منه بعد أن تنتهي مهمته، يعيش الأسد وأتباعه دور المنتصر، وهم لا يعرفون توقيت إسدال ستارة الختام على ذلك الفصل الدامي من اللعبة التي جعلت من الأسد وسيلتها، فيما لا يزال الأخير يعتقد أنه الغاية..