كان تثاؤباً ما صدر عن المارد السني، إن في لبنان، أو في سوريا. لم يستيقظ. هو في نومٍ عميق منذ قرون. حتّى رجب طيب أردوغان ليس أكثر من سهرة. لكن ما بدأ يستيقظ فعلاً، منذ أشهر كثيرة، هو المارد المارونيّ. 

شاعت نكتة بعد العام 2005، عن حسين وعمر اللذين اختلفا، فضربا إيلي. المغزى واضح، وهو أنّ الاشتباك السني - الشيعي سيدفع ثمنه المسيحيون. لكنّ استدارة خاطفة من سمير جعجع نحو عون، غيّرت كلّ شيء. دعم جعجع ميشال عون لرئاسة الجمهورية. أكّد حزب الله أنّ عون مرشّحه. جاء سعد الحريري من جولة عربية وغربية شملت موسكو وتركيا، وموافقة أوروبية وأميركية، ورضى سعودي، ودعم ترشيح عون. خجل حزب الله من التراجع.

فوصل عون إلى قصر بعبدا. في غمضة عين سياسية بات عون رئيساً، وجعجع عرّاب العهد الوليد، على الطريقة المسيحية في انتقاء عرّاب لكلّ طفل. 

سبق كلّ هذا "انتفاضة مسيحية" غير مترابطة لكنّها حفرت في وعي المسيحيين، وأعطت إشارات حاسمة للمسلمين. تارة على استبدال موظّف مسيحي بآخر شيعي في دائرة كبار المكلّفين بوزارة المالية، أو تعيين موظف شيعي مكان موظف مسيحيّ في دائر تسجيل السيارات (النافعة)، أو غيرها من "الارتجافات" المارونية المفاجئة في جسدٍ ظنّه كثيرون نائماً. 

إستبق انتخاب عون عودة حديث شخصيات مارونية أساسية عن "الميثاقية"، على رأسها العونيين والقوات. والقصد بها "حصّة المسيحيين في السلطة". أي الحصّة الأكبر من الحصّة المحصول عليها حالياً. والتحقت شخصيات مسيحية أساسية بهذا المنطق، من خارج الموارنة، منهم ميشال فرعون الأرثوذكسي في الأشرفية، وسيرج طوركيسيان الأرمني في بيروت كذلك. والتحق البطريرك بشارة الراعي بتكليل "الكنسية" منطق "رفض السلّة" التي نادى بها الرئيس نبيه برّي. السلّة التي تضمنت تطمينات لـ"مخاوف الشيعة" بعد انتخاب رئيس. وانتُخِب عون دون سلّة. 

كان برّي أوّل من التقط، بحساسيته السياسية العالية، ورادارته المذهبية الصائبة، صعود هذا المارد. تجربة وزيره للمالية علي حسن خليل جعلته على تماس يومي مع تلك "النفضات" في الجسد الماروني المتعافي شيئاً فشيئاً. 

أراد برّي تقييد هذا المارد بـ"سلّة" تفاهمات قبل أن يخرج رأسه من قصر بعبدا، فيلتقط أنفاسه المحلية والعربية والدولية، ويمدّ يديه إلى القوانين والمراسيم ويصير له توقيع، غير محتاجٍ لأحد. وقد "جفل" وليد جنبلاط من لحمة عون - جعجع وتحسّس مقعده النيابي في الشوف. وحده سعد الحريري، متكئا على بحرٍ سنيّ لا يبدأ في الخليج ولا ينتهي في المحيط، أمسك بيد المارد وقال له: سأخرجكَ من قفص "الطائف"، شرط أن تحافظ على موقعي فيه. فوعده خيراً. 

بعد وصول عون إلى بعبدا، قال باسيل للعرب من جريدة "الشرق الأوسط": نحن مع ترك سوريا للسوريين. ورفض عون وجعجع توزير "مردة" سليمان فرنجية، "الأسديّ" سياسياً، والذي قاطع جلسات نيابية كان يمكن أن تنصّبه رئيساً. لا يهمّ... ثم أصرّ جعجع على إعطائه وزارة المالية، "حصّة الشيعة بالتوقيع الثالث بحسب الطائف"، على قول برّي. وفي الوقت نفسه كان باسيل يضغط لعدم توزير مسيحيّ مستقلّ يمثّل نواب 14 آذار المسيحيين من خارج "القوات" و"التيار الوطني الحرّ". 

للمرّة الأولى، منذ خروجه من قبو سجن وزارة الدفاع، ملتحفاً ثوب قدّيس طوباوي، ومخفضاً صوته الذي كان "يلعلع" خلال حروب الدم التي خاضها، للمرّة الأولى، بدا كأنّ جعجع يتأمّل ثوبه العسكريّ، ويراوده اللون الكاكي عن نفسه. الثوب الذي خلعه مُرغماً في 1990، ورماه ضباط الأسد في "سلّة" المهملات العام 1994. وها هو، إذ يرفض توزير "المردة" أو "الكتائب" أو "القومي"، ويدعو حركة "أمل" إلى التزام المعارضة، بعدما رفضت انتخاب عون، ها هو جعجع "الرومانسي" التسووي، وقد تحوّل إلى "إلغائيّ" فجأة، بعدما تنسّم عبير زهور قصر بعبدا المارونيّ. بذاكرة تنهل من ثقافة حاجز البربارة والسبت الأسود، قرّر شطب المردة وإلغاء الكتائب وإعدام الحزب القومي، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. 

بعد تشكيل الحكومة لن يمرَّ عامٌ قبل أن يصطدم "المارد المارونيّ" بكلّ الأطراف. وإذا كان اليوم يكيد لبرّي ويزعج حزب الله، فغداَ سيقاتل الحريري في عقر داره. وقد بدأ يمدّ يده باشتراط توزير سنيّ محسوب عليه، عبد الرحيم مراد أو فيصل كرامي، وشيعي كذلك. ويفكّر في معركة نيابية بوجه جنبلاط يقودها وئام وهّاب. وجنبلاط يعرف. ولن يطول الأمر قبل أن يترحّم حزب الله على خصوم مثل "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الإشتراكي". 

لقد استيقظ المارد الماروني. هذه حقيقة ثابتة. وهذه المرّة يمتلك كلّ أسباب التوسّع والتمدّد، في الشرق والغرب، في المال والنفوذ، في السلطة والشارع. وهذه المرّة، حين يختلف حسين وعمر، سـ"يفقعهما" إيلي سحسوحاً ويأخذ السلطة والنفوذ، ويتركهما، واحداً منهمكاً في دماء السوريين، وآخر منهمكاً في إفلاسه الماليّ وتعبه السياسيّ.