كان يا مكان بمطرح من لبنان، كان الفنّ يكلّف العمل الشاق والسهر وحسن اختيار الكلام والألحان، كان الفنّ يكلّف ثقافة وقراءة ومتابعة وإحساساً مرهفاً... وأكثر من أيّ شيء ثانٍ كان يكلّف الفنان أغلى سنوات عمره وشقاه وتعبه وحتى عافيته. هذا كان بالطبع من زمان، أمّا اليوم فبات الفنّ لا يكلّف في معظم الأحيان سوى مجموعة منتقاة من أرخص الثياب الداخلية وبعض العضلات الإخراجية وكمشة "لايكات" تضمن "قنبلة الموسم" التي غالباً ما تفوح منها رائحة النتانة! ربما لم تسمعوا بسيفين أبي عاد بعد ولا بأعمالها الفنية المتقنة ولم تستلذّوا بتلوينات صوتها في نغمات الجاز أو يسرقكم حضورها القوي على المسرح في أداء روائع الأغنيات الفرنسية والانكليزية بطريقة ممسرحة فريدة.

كلّ هذا لا يهم. بالطبع لا، فهي ليست من فنانات العري والرخص والابتذال اللواتي يتهافت الإعلام عليهنّ لنفخ نسب مشاهدته "المثقوبة" ولا هي من المحظيّات اللواتي يطلقهن منتج مقتدر نحو النجومية بلمح البصر.

سيفين أبي عاد أطلقت من شي يومين أغنيتها الجديدة "أنا مش فنانة" عبر صفحتها الخاصة على مواقع التواصل الإجتماعي، لتقول أشياء كثيرة وتعبّر عن آراء العديد من الأشخاص القرفانين من رائحة الحضيض النتنة التي يتمرّغ فيها الفنّ في لبنان ومعه كثير من المنابر المسترخصة بأذواق الناس وأخلاقهم وثقافتهم.

على هذا الواقع بالتحديد تثور سيفين التي تجرّأت على تحدّي الصورة النمطية للفنانة التي تستعرض كلّ شيء ما عدا صوتها. ولكن بدلاً من تبنّي الصوت الواعظ أو النمط الكلاسيكي حاربت سيفين أفشل "الفنانات" بسلاحهن، لتقدّم صورة كاريكاتورية تضجّ كوميديةً وذكاءً من خلال باكورة أعمالها المصوّرة بعنوان "أنا مش فنانة" من إخراج سيرينا أبي عاد.

لقب "فنانة" لم يعد اليوم يشرّف كثيرات في ظلّ هجمة العارضات على النفخ والتلميع والتكبير وكلّ إجراء جراحي من شأنه تضخيم التضاريس على حساب الصوت الهزيل. وهو لقب لا يعطي بالطبع صاحبات الخلفية الأكاديمية الصلبة أمثال سيفين أبي عاد حقها خصوصاً أنها لم تخض الساحة الفنية بهزّة خصر ولم تضِف على أرشيف الأغنية المصوّرة مادة ترتقي إلى البورنوغرافيا والبذاءة التي تسبح فيها اليوم.

"أنا مش فنانة" ليس مجرّد عنوان لافت لعمل فنّي جديد، وإنما هو صلب أغنية سيفين التي تعبّر عن رفضها لتسمية فنانة إذا كانت ستشبه فنانات

السيليكون والإغراء والمضمون الفارغ على حساب الملابس الممتلئة أعضاء منفوخة.

الأغنية أشبه بمشروع ثوري وقد كتب كلماتها كلّ من سيفين نفسها بالاشتراك مع الفنان مايك ماسي والشاعر اللبناني نامي مخيبر وهي من ألحان مايك ماسي وتوزيعه وإنتاجه الفنّي.

وفي نصّ شعري لبناني سلس وفيديو كليب بسيط وذكي، توجّه سيفين أبي عاد صفعة الى وجه الفنانات الرخيصات والى فكرة الفنّ المبني على أسس الإغراء والجنس... وتوجّه سيلاً من التلطيشات الثمينة إلى شركات الإنتاج الضخمة والجمهور الذي يساهم في انتشار البضاعة الرخيصة على حساب الفنّ المشغول بحرفية وضمير، ولا توفّر عمليات التجميل والموضة التي تشيّئ المرأة وتضعها سلعةً معروضةً أمام أعين الجماهير العريضة.

تجرّأت سيفين على التخلّي عن لقب "فنانة" الذي تبذل الفتيات الكثير من اجل الاستحصال عليه، تجرّأت لتقول إنها ترفض أن تصبح دمية معدّلة بأيدي المنتجين وصنّاع الأغنية فقط من أجل الشهرة... في الفيديو كليب تقمّصت ببراعة لافتة شخصيّاتٍ فنيةً كثيرة لتلفت أنظار لجنة تحكيم ٍ مزعومة إلى موهبتها، ولم تنجح بنيل التصفيق وإعجاب اللجنة إلّا بعدما لبست شخصية الفنانة الـ sexy التي تبهر الجميع. وبالتالي لم تستطع أن تنجح بامتحان اللجان التي تمثّل صنّاع الأغنية إلّا بعدما تقمّصت الصورة النمطية لأفشل فنانة في لبنان! هذا الواقع المزدوج بين النجاح والفشل جعلها تنزع الباروكة عن رأسها نازعةً معها القناع عن وجوه الكثير من مدّعيات صفة "فنانات".

بالتأكيد، إذا أكملت سيفين مشوارها الفنّي في هذا الخط لن تتمكّن من شراء شقّة 700 متر مربع في الداون تاون، ولن تجد المال الكافي لشراء أسطول سيارات داكنة وتوظيف جيش من الحراس الشخصيين لحمايتها أثناء تناولها فنجان قهوة في أغلى مقهى في البلد، وبالطبع لن تصادف زحمة ميكروفونات وكاميرات لالتقاط آخر تفاصيل علاقاتها الغرامية...

لكنها ستبقى، كغيرها من الفنانين والفنانات الحقيقيين، شوكة في خاصرة هذا الواقع الفنّي العربي المتمادي في احتقاره للنوتات والكلمات إفساحاً في المجال أمام أفشل الفنانات!

(الجمهورية)