في الأسطورة الإيطالية يزداد أنف اللعبة الخشبية «بينوكيو» طولاً كلما كذب كذبة، أما في الأسطورة اللبنانية فيزداد الرئيس سعد الحريري مصداقية كلما نكث بوعد. تجربة المجرّب تتكرر من دون ملل، ومن دون أن يصارح أحد المراهنين على لبننة الاستحقاق بأن عقلهم مخرّب.

وفي ظل ما يتداول على نطاق واسع، يفترض أن تمنح جائزة وطنية لنائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي فرزلي لنجاحه، مرة تلو أخرى، في دحرجة الأفكار لتنمو وتكبر ويصبح من الصعب إذابتها. فقبل أكثر من عام، وربما عامين، كان الفرزلي يجلس على طاولة السفرة في منزله، مستمتعاً بما اكتشفه أخيراً من نكهات شاي مختلفة، ويقول بثقة إنه لا حل أمام الرئيس سعد الحريري لإنقاذ مستقبله سوى بانتخاب عون رئيساً. الفكرة بدت يومها غريبة وعجيبة أكثر من قانون الفرزلي الأرثوذكسيّ حتى. فلا التوازنات الإقليمية كانت (ولا تزال) توحي بانكسار سعوديّ يلزم محوره بالرضوخ لشروط المحور الآخر من أجل عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة التي تعتبر تحصيلاً حريرياً حاصلاً، ولا الجنرال كان يوحي باستعداده لإبرام صفقة سياسية يأخذ بموجبها رئاسة الجمهورية كما هي مقابل أخذ الحريري رئاسة الحكومة بكل هيئاتها وصناديقها والمزاريب. إلا أن الفرزلي كان واثقاً بطرحه: في حال عاند الحريري قليلاً، خيّروه بين رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب أو بين الميثاقية والمؤتمر التأسيسيّ، ودعوه هو يختار. ومن تلك «السفرة» انتقلت الفكرة، من فم إلى أذن حتى صارت طرحاً متكاملاً يملأ الفراغ السياسيّ ويشغل جميع الأفرقاء من دون استثناء، وبات الحريري عاجزاً عن تبرير رفضه لانتخاب عون رئيساً. ولا شك في أن الحريري كان سيكون محرجاً أكثر من أيام تصدّيه للقانون الأرثوذكسي بكثير لولا المراعاة العونية اليوم والحرص على سحب الذرائع منه، علماً بأن من يسمع العونيين ومن يدور في فلكهم فقط يعتقد أن ثمة إجماعاً وطنيّاً على تبنّي طرح الفرزلي، ولا بدّ من الإسراع إلى أقرب دكان لشراء المفرقعات للاحتفال بانتخاب العماد عون رئيساً بعد تسعة أيام.

 

فاقتناع العونيّين الراسخ بعدم وجود خلاص للحريري بسواهم، يتزامن هذه الأيام مع حماسة الوزير نهاد المشنوق لهذا الطرح، ومزايدة القوات، وإسراف في الضغط من جهة حزب الله. لكن جميع هؤلاء في كفة، والرئيس نبيه بري الذي يتصدى كعادته للاندفاعة العونية والرئيس فؤاد السنيورة والنائب وليد جنبلاط في كفة أخرى. أما الرئيس الحريري، فالكل يتحدث بالنيابة عنه، لكن لا أحد يعلم أين هو يضع نفسه. وبعيداً عن التقديرات المتداولة، ثمة من دون شك 3 نقاط متعلقة بالحريري شبه أكيدة:
أولاً، سعد الحريري كان ولا يزال يعتبر نفسه جزءاً من محور إقليمي ترأسه السعودية يشنّ حرباً تكفيرية شعواء على خصومه في المنطقة، وهو يقول للمقرّبين منه إن المملكة لم تتخلّ عنه وإنها لا تقاصصه مالياً، لكن ثمة أزمة مالية تعاني منها 11 شركة كبيرة تعمل في المملكة لا شركته فقط، علماً بأنهم يواصلون «أخذه وجيبه» بحثاً عن حل يبقي شركاته على قيد الحياة، ولم يوصدوا الأبواب في وجهه بعد، ولا شيء يدفعه بالتالي إلى الانخراط في حل بمعزل عن محوره. ولا بد هنا من حسم القارئ في ذهنه أن «سعودي أوجيه» أهم بالنسبة إلى الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية، وهو يرى أن أولويته إنقاذ شركته لا العودة إلى رئاسة الحكومة التي من شأنها شغله عن شركته ومضاعفة مشاكله لا حلحلتها. ويفيد التذكير بأن قوانين المملكة تجعل من هوية الحريري السعودية هوية أساسية له، وهويته اللبنانية الهوية الثانية، وقد غادر أبناؤه بيروت أول من أمس للالتحاق بمدارسهم في المملكة، وهناك خمس طائرات خاصة للحريري تقلّ على مدار الساعة الموظفين من المملكة وإليها لن يخاطر الحريري بخطوة من جانبه من شأنها إعلام هذه الطائرات بمنعها من الهبوط على مدارج جدة. والجدير ذكره هنا أن الحريري ينتظر لقاء عمل ثانياً قريباً مع المعنيين بحل أزمته، ويرجّح أحد المقربين منه تأجيله بحث أي شأن لبناني إلى حين تيقّنه من حلحلة شؤون «سعودي أوجيه».
ثانياً، سير الحريري بأي حل من دون غطاء سعودي، يهدّد ــــ في ظل الذهنية الثأرية السعودية ــــ بسحب البساط السعوديّ من تحته وفوقه. وما يشاع في بعض الصالونات السياسية عن عدم قدرته على إلزام الجزء الأكبر من كتلته النيابية بأي قرار شخصيّ يتخذه من دون مباركة سعودية كلام جديّ. ففي ظل وضعه السياسي والمالي والشعبي، لا يكفي أن يقول الحريري «سرنا بعون رئيساً» ليسير الرئيس فؤاد السنيورة ومن يدورون في فلكه؛ لا بدّ من إشارة سعودية واضحة لهؤلاء. ويفيد التذكير هنا بأن هؤلاء لزموا الصمت تجاه مبادرة الحريري إلى ترشيح النائب سليمان فرنجية ريثما أتى الضوء الأخضر السعودي، علماً بأن هناك من يبالغون في احتقار النواب، فينسون أن النائب أحمد فتفت مثلاً رفض تمنيات الرئيس رفيق الحريري عليه التمديد للرئيس إميل لحود وقال لمن راجعه من ضباط الاستخبارات السورية إنه لن يمدّد والتزم بذلك. ولا شك في أن فتفت وكثيرين غيره سيكونون محرجين جداً من تبنّي الحريري ترشيح عون، إذ يكفي وضع اسمهم على محرك البحث الإلكتروني لاستذكار مواقفهم وقراءة بيان لفتفت يقول فيه «مستحيل أن أصوّت لعون». ولا بدّ من لفت النظر هنا إلى أن تصعيد ريفي المخيف الأسبوع الماضي ضد الحريري لم يواجه بردّ موجع من نائب مستقبليّ واحد أقله، فهؤلاء يستشعرون الخطر من ريفي على الكراسي التي اعتادوا الجلوس عليها، ولا يدرون كيف يدارونه ليكفّ شرّه عنهم.

 


ثالثاً، انتخاب الحريري لعون رئيساً من دون غطاء إقليمي يسكت خصومه، يتقدمهم الوزير المستقيل أشرف ريفي، من شأنه مضاعفة مشاكل الحريري الشعبية لا حلها. وما كلام النائب نواف الموسوي عن «عدم تركهم الحريري ــ في حال انتخابه عون رئيساً ــ وحيداً في مواجهة خصومه الداخليين أو غيرهم» سوى وضع للإصبع على الجرح الحريريّ الشعبيّ. فخروج الحريري من المستنقع يتطلب خطاباً سياسياً لا يملكه، وريالات المملكة، وصورة ربيعية جديدة لا تعميم النظرية القائلة إنهم سيسمحون له بنهب ما تبقى مقابل انتخابه عون رئيساً.
بالتالي، فإن تحقيق الحريري لنبوءة الفرزلي لا يزال رهن «ثورته على ذاته»، ولا شيء يدفع إلى الاعتقاد بأن جلسة انتخاب الرئيس المقبلة ستكون مختلفة عمّا سبقها. لكن الواضح أن ثمة مجموعة أفرقاء قرروا فجأة تقاذف كرة الفراغ الرئاسي لملء الفراغ السياسي: مواظبة سمير جعجع على تحميل حزب الله مسؤولية الفراغ، واستشعار الحزب أن هناك مناخاً عونياً بدأ يتأثر به دفعه إلى تكثيف مطالبته بانتخاب عون رئيساً، علماً بأن بعض وسائل الإعلام رأت أن طريقة نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم إنما جعلت العماد عون مرشحاً وحيداً يفترض بالكرة الأرضية أن تذعن لقرار الحزب بانتخابه رئيساً، وهو ما يضرّ به بدل أن يفيده. وبدل تحمّل تيار المستقبل السهام، قرر المشنوق إراحة تياره وإبقاء الباب مفتوحاً أمام جميع الاحتمالات، تاركاً للرئيس نبيه بري و»السلة» مهمة إحباط العونيين. وكان العونيون أول من تحدث عن هذه السلة غداة ترشيح الحريري لفرنجية، فلا يسعهم غسل أياديهم منها أو انتقاد بري لتمسّكه بها اليوم. إلا أن هذه الجعجعة تسهم في تحريك مياه الرئاسة الأولى الراكدة، في ظل نصائح جديدة للجنرال بالذهاب مباشرة إلى السعوديّ الأصيل بدل انتظار وكلائه في لبنان، وبحث عدة أفرقاء في كيفية ردم الهوة العونية ــ السعودية السحيقة، بعدما باءت المحاولات العونية السابقة بالفشل. واللافت للنظر بعد مجموعة التسريبات المغلوطة أن التعبئة العونية التي بلغت ذروتها نهاية الأسبوع الماضي هدأت مع بداية الأسبوع، وارتاحت أعصاب العونيين مع انتقالهم السريع من البحث عن وسائل التصعيد إلى درس الخيارات الأنسب للاحتفال بانتخاب عون رئيساً. ولا شك الآن في أن قانون الانتخابات وفق النظام النسبي وإجراء الانتخابات في موعدها وغيرهما من العناوين العونية التي يمكن أن تزعج الحريري أو تقلق راحة سموّه ستوضع على الرف مجدداً بضعة أسابيع ريثما يتبين الجميع أن أنف رئيس الحكومة السابق ازداد طولاً بضعة مليمترات إضافية.


الفيتو السعودي على عون... كتَبَه جعجع

لا انخراط سعودياً في أي حل وشيك للأزمة اللبنانية. ولا شك في أن تطورات المشهد السوري ستؤثر لبنانياً، إلا أن أحداً لا يسعه القول إن هناك اتصالات دولية أو إقليمية ولو ثانوية تخص الملف اللبناني. ويفيد التذكير هنا بأن الفيتو السعوديّ على عون مكتوب بخط رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لا الحريري. فمعركة الحريري مع عون كانت ثانوية دائماً، فيما جعجع من عمل بنهم طوال عشر سنوات على إقناع الصغير والكبير في الخليج بأن حزب الله يستمد شرعيته السياسية من تحالفه مع عون، لذا يجب عليهم دعمه بسخاء لتقويض عون. وكان يفترض بجعجع أن يسخّر جهداً مماثلاً لإقناع «طِوال العمر» بأنه كان يمزح معهم وبأن العماد عون خير مرشح إلى رئاسة الجمهورية، لكنه لم يفعل ذلك.