بات محسوماً أنّ الفترة الفاصلة من الآن ولغاية موعد الجلسة الرئاسية في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، هي من ضمن فترة انتظار ظهور معجزات توقِف دوران البلد حول نفسه، وتُخرجه من متاهة التعقيدات التي تعصف بكل مفاصله.
اذا كانت القوى السياسية على اختلافها، تقارب جلسة انتخاب الرئيس بوصفها واحدة من الجلسات الضائعة كسابقاتها، وبالتالي لن تأتي بالمولود الرئاسي المنتظر، فإنّ الوقائع المحلية بكل تعقيداتها وتبايناتها المفتوحة على شتى الاحتمالات، وكذلك الوقائع الاقليمية والدولية وسياسة «النأي بالنفس» التي تعتمدها الدول الكبرى تجاه أزمة لبنان، واكتفائها بالعزف المتكرر في آذان المسؤولين اللبنانيين لأسطوانة الحرص على الاستقرار والحفاظ على المؤسسات، كلّ ذلك لا يؤشّر الى انفراج قريب، او حتى في المدى المنظور، بل الى انّ فترة الانتظار السلبي ستمتد الى مدى زمنيّ طويل.

مراوحة سلبية

في السياسة لا جديد، وأفقها ملبّد بضباب سياسي كثيف على خط الحوار الرئاسي بين «بيت الوسط» والرابية، وفيما تلقّى رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون دعماً متجدداً من «حزب الله» وكذلك من «القوات اللبنانية» على لسان رئيسها سمير جعجع بالتمسّك به مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية، أكّدت مصادر واسعة الاطلاع لـ»الجمهورية» انّ التواصل لم ينقطع بين الرئيس سعد الحريري وعون وهو مستمر عبر وسطاء. ولاحظت ارتفاع وتيرة الإشارات السلبية التي يطلقها «المستقبل» في اتجاه «التيار الوطني الحر»، سواء عبر رئيسها فؤاد السنيورة أو بعض نواب كتلة «المستقبل»، وهذا ما سيتمّ التأكيد عليه صراحة اليوم في اجتماع الكتلة، بالإعلان عن استمرار التمسّك بترشيح النائب سليمان فرنجية.

في هذا الوقت، تعتمد عين التينة سياسة استكشافية لمواقف القوى السياسية وخصوصاً تلك «العاملة بشكل حثيث» على خط الحوار الرئاسي بين عون والحريري. وفي هذا السياق يندرج لقاء أمس بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الداخلية نهاد المشنوق.

وفيما لم تبرز أي مؤشرات عن عودة وشيكة للحريري الى بيروت، تَموضع الموقف العوني في مربّع التحضير لتحركه التصعيدي، وبَدا جلياً انّ جرعة التفاؤل التي قيل إنها زادت في الفترة الاخيرة في الرابية، ربطاً بالحوار الرئاسي بين عون والحريري، بَدت وكأنها غير موجودة أصلاً. وإن كانت موجودة، فقد انخفضت او انعدم مفعولها نهائياً.

توجّهان

أمام هذه المراوحة السلبية المفتوحة والمنعدم فيها احتمال حصول خرق في الجدار الرئاسي، سواء عبر انتخاب عون او فرنجية، او الذهاب الى مرشّح ثالث على ما بدأ يقال في بعض المجالس والصالونات السياسية والرسمية، تبقى أعصاب البلد مشدودة حيال ما قد يحمله الآتي من الايام، من تطورات، خصوصاً أنّ البلد المنقسم رئاسياً اصلاً، صار محكوماً حالياً بتوجهين:

- الأول: تصعيدي يقوده عون، على ان تشكّل الجلسة الرئاسية الفاشلة سلفاً في انتخاب رئيس، محطة لإطلاق شرارة التصعيد السياسي، وهذا ما سيتمّ التأكيد عليه في اجتماع تكتل «التغيير والاصلاح» اليوم.

- الثاني: إحتوائي للواقع السياسي، ويقوده بري ومعه رئيس الحكومة تمام سلام، وهدفه إنعاش المؤسسات الدستورية بما يعيد من جهة، الحياة الى الحكومة على قاعدة ان لا بديل عنها، وانّ الضرورة الوطنية توجب وَضع جلسات مجلس الوزراء على سكة الانعقاد الدوري وتسيير شؤون البلد، وسيتجلى هذا التوجّه في الدعوة التي سيوجّهها سلام الى انعقاد مجلس الوزراء بعد عودته من نيويورك. كما يعيد من جهة ثانية إطلاق العجلات التشريعية لمجلس النواب.

جلسة تشريعية

وهنا يندرج توجّه بري للدعوة الى عقد جلسة تشريعية - ولو بمن حضر لتأمين نصابها - في النصف الثاني من تشرين الاول المقبل، لإقرار مجموعة من البنود الضرورية.

ولعلّ ابرزها يَتسِم بالصفة المالية، كما قال وزير المال علي حسن خليل لـ«الجمهورية»، ومن بينها اتفاقيات يجب ان نوقعها، علماً انّها منجزة وجاهزة للإقرار في الهيئة العامة لمجلس النواب، فضلاً عن مسألة أساسية تتعلق بالاجازة للحكومة إصدار سندات الخزينة باليوروبوند لتغطية احتياجات الدولة عن العام 2017، والتي يجب ان تُقرّ الآن حتى نبدأ العمل فيها قبل رأس السنة. فما نؤكد عليه هو انّ الوضع المالي حسّاس ويتطلّب مواكبته من قبل المؤسستين التنفيذية والتشريعية لحماية وضعنا، وهذا يتطلب الاسراع في درس الموازنة العامة في مجلس الوزراء وإقرارها وإحالتها الى مجلس النواب.

الى ذلك، ينتظر ان تشكّل الجولة الجديدة من الحوار الثنائي بين «حزب الله» و«المستقبل»، التي تنعقد مساء اليوم في عين التينة، مناسبة لجوجلة المستجدات التي طرأت في الآونة الاخيرة، سياسياً وأمنياً.

الجسر

وقال النائب سمير الجسر لـ«الجمهورية» انّ المجتمعين سيواصلون النقاش في بندَي رئاسة الجمهورية وتنفيس الاحتقان إضافة الى ما شهدته جلسة مجلس الوزرراء الاخيرة التي غاب عنها وزراء «حزب الله» وتيار «المردة» إضافة الى «التيار الوطني الحر» والمستجدات التي حصلت منذ آخر جلسة حوارية حتى اليوم. وأبدى اعتقاده بأنّ موقف الحزب و«المردة» كان موقفا موقتا وليس دائما، ورأى ان لا احد مُستَغن عن الحكومة بمن فيهم «التيار الوطني الحر»، ولا احد له مصلحة في ذلك، ورأى انّ كل طرف يحاول ان يشدّ ويضغط لتحسين موقعه وشروطه.

وعن الاتصالات السياسية بين الحريري والرابية أوضح الجسر انّ الاتصال بين الطرفين لم ينقطع اساساً وهذا امر طبيعي، شأنه شأن الاتصالات مع كافة الاطراف السياسية في البلاد، لكن اذا كان الاتصال بين بيت الوسط والرابية قائماً فليس معناه انّ هناك موقفاً معيناً من قبلنا.

ولدى سؤاله هل انّ «المستقبل» وعد عون بانتخابه في جلسة 28 الجاري؟ أجاب: «انّ كتلة «المستقبل» ستنزل كالعادة الى ايّ جلسة انتخابية. امّا بالنسبة الى انتخاب عون فحتى الآن لم تجتمع الكتلة وتقرر في هذا الشأن». اضاف: «ليس لدينا ايّ جديد وتأييدنا ترشيح النائب سليمان فرنجية لا يزال قائماً ومستمراً».

وقرأ الجسر في كلام النائب السابق غطاس خوري توصيفاً للواقع، مشيراً الى انّ تأييد ترشيح فرنجية كان بهدف إيجاد مخرج للأزمة القائمة، لكن قاربنا السنة ولم يحصل ايّ تبدّل في المشهد الرئاسي.

واشار الى أن لا مؤشرات تَشي بإمكان انتخاب رئيس في جلسة 28 الجاري، ورأى في مواقف «حزب الله» من مسألة انتخاب عون تكراراً للمواقف السابقة، سائلاً أين هي اللعبة الديموقراطية؟. ودعا نوّاب الحزب الى النزول الى المجلس وانتخاب الرئيس، وقال: لسنا نحن من يعطّل إنجاز هذا الاستحقاق.

النازحون من بيروت الى نيويورك

في غضون ذلك، فرض ثقل أزمة النازحين على لبنان، أن تدقّ الدولة جرس الانذار في آذان العالم من الخطر الذي تشكّله، خصوصاً على لبنان. واكّد سلام في كلمته في قمة الأمم المتحدة للاجئين والنازحين في نيويورك «انّ النازحين السوريين باتوا يشكلون ما يوازي ثلث عدد سكان لبنان، وإلى جانبهم هناك أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الذين أضيف اليهم نحو 50 ألف فلسطيني جاؤوا هرباً من القتال في سوريا. ونَبّه الى انّ لبنان معرّض لخطر الانهيار ما لم تبذل الأسرة الدولية جهوداً كبيرة في هذا المجال.

قزّي

على انّ اللافت للانتباه متابعة وزير العمل سجعان قزّي في بيروت، حيث عرض أوّل مشروع تفصيلي وآلية لعودة الناحين السوريين الى بلادهم، ولفت الى أنّ الهوية الوطنية معرّضة للتغيير والكيان اللبناني بخطر وعودة السوريين الى سوريا ضرورية. واعلن انّ الوزارة غير معنية بأيّ قرار يؤخذ في نيويورك بشأن موضوع اللاجئين السوريين خارج إطار عودتهم الى بلدهم، والوفد اللبناني ذهب من دون دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد، وقال: اذا كانت عودة الفلسطينيين الى فلسطين حقاً فإنّ عودة السوريين الى سوريا واجب. واكد انّ عنوان المرحلة المقبلة هو «سوريا للسوريين والسوريون الى سوريا»، وأعلن برنامجا شاملا وتفصيليا بدءاً من كانون الثاني المقبل، على أن يكون التنفيذ تدريجاً وعلى مدى عامين.

الإقتصاد... نزولاً

في موازاة الشلل السياسي، وصلت الاوضاع الاقتصادية والمالية الى درك خطير. وتتوالى الأرقام المُقلقة التي تعكس التراجع والانكماش، وآخرها تلك المتعلقة بتجارة التجزئة، حيث أظهرت المؤشرات الصادرة أمس تراجعاً تراوح بين 7 و9 في المئة، وفقاً للقطاع، في النصف الأول من 2016.

في سياق متصل، أظهرت أرقام الأداء الاقتصادي انّ العجز في الميزان التجاري اللبناني زاد في الاشهر السبعة الاولى من العام الجاري 7,8 % الى 9,2 مليارات دولار صعوداً من 8,5 مليارات دولار في 2015، وجاء ذلك نتيجة ارتفاع الاستيراد وتراجع الصادرات.

الى جانب الاقتصاد الحقيقي، تبدو الاوضاع المالية في وضع صعب، الأمر الذي اضطرّ مصرف لبنان الى التحرّك اخيراً من خلال هندسات مالية أدّت الى جذب الاموال من الخارج، وإنقاذ البلد من احتمال خفض تصنيفه الائتماني، الأمر الذي كان سيتسبّب في حال حصوله، بارتفاع معدلات الفوائد، وزيادة الضغوطات المالية والاجتماعية على اللبنانيين.

وكأنّ هذه الأوضاع المعقدة لا تكفي، حتى أضيفت اليها أخيراً مسألة رواتب موظفي القطاع العام المُهددة بالتوقّف بدءاً من كانون الاول المقبل، في حال لم يُفعّل العمل الحكومي، أو يُنشّط التشريع في المجلس النيابي. وعلى رغم انّ هذه المسألة لا علاقة لها بنضوب المال، بل بالتغطية القانونية التي يحتاجها وزير المال لصرف الرواتب، الّا انّ مجرد الاعلان عن المشكلة وتداولها في الاعلام ينعكس سلباً على سمعة البلد، ويزيد الطين بلّة.


أزمة التفاح

الى ذلك، لا تزال قضية موسم التفاح اللبناني عالقة، ولم تجد طريقها الى الحل من خلال تأمين أسواق خارجية لتصدير الموسم. وبما انّ التفاح، وفق التقسيم الطائفي النظري، هو ماروني، تماماً كما انّ شتلة التبغ شيعية الهوى، وشجرة الحامض سنية الانتماء، فإنّ مراوحة أزمة التفاح من دون تدخّل عملي من الحكومة لتأمين الدعم المالي لتعويض الخسائر، تثير حساسية اضافية لدى المزارعين. ويعتبر هؤلاء انّ الاهمال المقصود لا يمكن فصله عن المناخ السياسي العام السائد، والذي بات يتعاطى مع حقوق المكوّن المسيحي باستخفاف متعمّد ويضرب بنيتهم السياسية والإقتصادية.

المطران خيرالله

وطالب راعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله الدولة بالتحرّك السريع لإنقاذ موسم التفّاح، وقال لـ«الجمهورية»: على الحكومة العمل لتأمين أسواق لتصدير موسم التفّاح لأنّ كساده يضرب كل العائلات في الجبال، ويؤدي الى النزوح وترك أرضهم، وهذا يعتبر تهجيراً لهم في حين يجب ان نؤمّن لهم أبسط المقوّمات للصمود في الجرود». واكد أنّ «الكنيسة لن تترك شعبها يواجه الفقر، والبطريرك الراعي يتابع هذه المواضيع ويتحرّك لإيجاد الحلول»، ودعا الى «التطلّع لوجع الناس وعدم إهمال الشقّ الإجتماعي- الإقتصادي، لأنّ البلد لا يتحمّل الأزمات، وخصوصاً الأزمات الإقتصادية».