لا يمثل انفراط عقد طاولة الحوار بين القوى السياسية اللبنانية تفصيلا سياسيا تقليديا، بل إن الأمر يُتوج انهيارا قيميا مقلقا يوفر، يوما بعد يوم، أعراض التفكّك المجتمعي وتحلله على النحو الذي يطرح أسئلة حول نجاعة الفكرة اللبنانية ووجاهة ديمومتها.

ولئن تواصل الجدل دون كلل حول أهلية الكيان اللبناني منذ الاستقلال، فإن أدبيات المؤسسين الأوائل تخيّلت موجبات سامية تبرر قيام هوية مجتمعية واحدة، تنسحب على جماعات متعددة الطوائف، يروق للبعض تسميتها بالشعوب اللبنانية، ذلك أنه، في عرف هؤلاء، هناك شعب مسيحي وشعب مسلم، يتناسل منهما الشعب السنّي والشعب الشيعي والشعب الماروني وبقية شعوب المذاهب الـ18 التي يتّسم بها “الاستثناء” اللبناني.

وإذا ما أقر اللبنانيون باختلافهم وتباينهم فتكارهوا وتقاتلوا، فإنهم من أجل ختم عهد الاحتراب الأهلي فيما بينهم، “طبخوا” عام 1989 اتفاقا انتقوا معادلاته واجتهدوا في صيغه، وأخرجوا من مداخن مدينة الطائف السعودية ما يثبّت بالنصّ نهائية الوطن وعروبته.

على أن الإصلاح الدستوري الذي فرضته قوة الأمر الواقع وأشرف على ضبطه تقاطع إقليمي دولي، لم يلج وجدان اللبنانيين، بل إن جلهم اعتبره، في السرّ خجلا من أي علن، عرضيا لا يتّسق مع فكرة اللبنانيين، على تنوعهم، عن لبنانهم.

تنازل المسلمون في سطور الدستور عن شططهم الوحدوي مع أجسام كبرى تزحف نحن حدود بلدهم. كانت القومية العربية تعاني من تشوّه وضمور، ثم إن احتكار تمثيلها من قبل النظام السوري، أحال “الحلم” مشروع سلطة لها أجندتها وأجهزتها وشبكة الفساد التابعة لها، وبالتالي فإن التنازل عن الوحدة العربية جاء تسليما بسقوط المشروع الكبير وغيابه، لا قناعة بنهائية الكيان الصغير وحيوية غده.

مثّل العقد الاجتماعي الجديد، آنذاك، هزيمة للمسيحية السياسية ووقفا لصعودها كسقف أساسي لفكرة لبنان وتفاصيل إدارته. من قَبِل من الساسة المسيحيين بـ”الطائف”، فهو انصاع لقواعد اللعبة الجديدة وأقرّ بتوازن القوى الجديد محليا وإقليميا ودوليا، ومن رفض الاتفاق منهم، فقد عبّر عن جهل بقواعد التاريخ وصبيانية في مقاربة “لعبة الأمم”، على أن الروح التي هيمنت على جمهور القابلين والرافضين تعاملت مع الأمر بصفته نكسة تمّ التعامل معها بانتظار إشعار آخر.

لم يأت ذلك الإشعار الآخر، وبدا مع صعود نجم رفيق الحريري، أن المسيحيين سيربحون المعركة إذا ما جرّوا الزعامة السنية الجديدة نحو فكرة لبنان التي لطالما رفعوا بيرقها. وحين قتل الرجل بدا أنهم نجحوا في هذا الرهان، بحيث فرض الثقل الشعبي السنّي خروج القوات السورية من لبنان، فيما راجت لدى السنّية السياسية شعارات لطالما كانت عناوين للمارونية السياسية، بما في ذلك أن “لبنان أولا”.

والحقّ يقال إن “الطائف” أسس لصعود الشيعية السياسية داخل النظام السياسي اللبناني، برعاية دمشق أولا، ثم طهران لاحقا، لكن “الطائف” لم يمثّل مدخلا للشيعة لولوج الفكرة اللبنانية كما تخيّلها الرواد الأوائل. مع رفيق الحريري، تأسست السنّية السياسية الجديدة على التحرر من أي ارتباطات عقائدية دينية أو قومية مع الخارج. وقد ساعد في هذا التوجه، كما أسلفنا، سقوط المشاريع الوحدوية واندثار إنتاجها، فيما تصادفت ولادة “الطائف” مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وما لازمها من مشاريع وطموحات عابرة للحدود حصدت بسهولة الوجدان الجمعيّ للشيعة في لبنان.

وفي ثنايا تفاصيل الأيام الأخيرة وصفة لعملية تفتت للحمة التي صمدت منذ الاستقلال، على الرغم من “حادثيْ” الحرب الأهلية والوصاية السورية.

في التفصيل الأول، إعلان السلطات القضائية اللبنانية أن أجهزة المخابرات التابعة للنظام السوري تقف، بالدليل والاعترافات، خلف تفجير مسجدين سنيين في مدينة طرابلس (أغسطس 2013). بمعنى آخر فإن جهة رسمية لبنانية تابعة للحكومة اللبنانية تتهم دمشق بالاعتداء على لبنان والتسبب بمقتل 45 شخصا عدا سقوط المئات من الجرحى. بمعنى آخر أيضا، فإن بيروت تتهم النظام السوري بارتكاب ما عجز عنه قبل ذلك حين أرسل عبوات ناسفة حملها الوزير الأسبق ميشال سماحة، فثبتت إدانته وتورّط شخصيات قيادية مخابراتية سورية قيل إنها كانت تعمل بعلم من بشار الأسد نفسه.

رغم كل ذلك، فإن قسما من “الشعوب اللبنانية” لا يعتبر أنه معنيّ بالكارثة في طرابلس، وبالتالي غير معنيّ بالكشف عن المجرمين ومن يقف خلفهم. لم تصدر عن حزب الله أي إدانة لنظام دمشق، أو حتى أي تحفّظ أو أسف، بما يعكس ارتباط الحزب الهوياتي مع النظام السوري وليس مع اللبنانيين في طرابلس. ولم يصدر عن التيار العوني أي موقف جديّ صارم يدافع عن الضحية اللبناني الذي سقط بسبب مؤامرة دنيئة حاكتها ممرات السلطة في دمشق.

وفي التفصيل الثاني، فإن الوزير جبران باسيل الذي يعبّر هذه الأيام عن مظلومية مسيحية تحيل الحكم غير شرعي بحكم “عدم ميثاقيته”، يشكك بالشراكة الإسلامية المسيحية وينحو إلى التبرؤ منها والتلميح إلى خيارات بديلة. فإذا ما كان باسيل يمثّل خيارات الجنرال ميشال عون، فإن نبوءاته تمثّل امتدادا لموقف الجنرال العتيق برفض “الطائف”، وصولا إلى مقت تلك الشراكة التي نتجت عنه، والتهويل بفكّها والتخلّص من التزاماتها.

وبغضّ النظر عما إذا كان يحقّ لباسيل تمثيل كل المسيحيين (على ما أفاض الوزير سليمان فرنجية في استنكاره)، وبغضّ النظر عما إذا كان مسموحا له، حتى لو حصل على وكالة كل المسيحيين، تقرير أمر حلّ الشراكة مع المسلمين، فإن التعايش داخل الوطن الواحد، بالمبدأ، هو فرض وليس خيارا، كما أن فرط ذلك التعايش هو قرار جماعي تتخذه كافة أطراف الشراكة، هذا إذا سمح لأطراف الداخل تقرير مصير بلدهم. ناهيك عن أن مجرد استخدام “الحرد” والتلويح بترك ما يكرره البطريرك الماروني، بطرس الراعي، من أن لبنان “شراكة ومحبة”، يفتح أبواب الحرب الأهلية التي دفع اللبنانيون والمسيحيون أثمانا غالية بسببها. قد يعتبر اللبنانيون أن وطنهم وطن نهائي، لكن العالم قد لا يعتبر ذلك يوما ما، وقد تستنتج العواصم الكبرى التي أنشأت الكيان في بدايات القرن الماضي أن صيغته لم تعد صالحة في بدايات القرن الحالي. وفيما تتراكم الخرائط الخاصة بمستقبل سوريا، وتتدافع السيناريوهات المحتملة للمشهد المقبل لمنطقة المشرق، فإن مباضع جرَّاحي الخرائط جاهزة للفتك بأي نهائية مزعومة من أجل نحت نهائيات جديدة.

وفي التعبير عن قرف “الشعوب” من التعايش في ما بينها، وفي الكفر بالشراكة المسيحية الإسلامية على ما يفتي باسيل، وفي شماتة الطوائف بما يحصل للطوائف على ما يفسر عزوف حزب الله والشيعية السياسية عن اتخاذ موقف على مستوى المصاب في طرابلس، وفي تنافر المصالح والطموحات بين السنّة والشيعة في تعريف البلد والولاء له، فإن الصيغة اللبنانية باتت متقادمة قد يصعب ترميمها، وبالتالي فإن أفول التجربة اللبنانية قد بات محتملا.

قد يقول قائل إن الحروب الأهلية قد تعيد للبنانيين “قضايا” يُستحق الدفاع عنها طالما أن لبنان قد فقد حاليا “قضية” وجوده. فقضية اللبنانيين باتت الدفاع عن حقوق “الشعوب” اللبنانية في المحاصصة الداخلية في تقاسم السلطة والثروة، بحيث بات الوطن ورشة تناتف لا تكاتف. وإذا ما كانت الحروب هي التي تعيد للأوطان مبررا، فهل مازال البلد يستحق الموت من أجله؟

ليست في السطور سوداوية مفرطة، بل هي تعبير متواضع عن غبار ما يجرّنا إليه ساسة لبنان اليوم.

العرب: محمد القواص