الاختلاف السياسي يُحَل بالحوار الملتزم مصالح المنطقة. الموقف التركي من الأزمة السورية أدخلها وأدخل المنطقة في حالة اضطراب كبرى تكاد تطيح بالأساسيات التي قام عليها الحلم التركي الذي راود الإسلاميين عرباً وغير عرب على مرِّ العقود الماضية منذ وصول حزب الرفاه بزعامة  نجم الدين أربكان (1996) إلى الحكم عن طريق الانتخابات والبدء بخطة متدرجة لإعادة تركيا إلى المنطقة ومنطقها، بعد حفلة اغتراب امتدت عقودًا حاولت أن تغير هوية تركيا من بلد إسلامي قاد العالم الإسلامي في مرحلة من المراحل إلى بلد علماني متأورب وليس أوروبياً. 
تدرج الرد على عملية التغريب وعززت تركيا علاقاتها مع إيران ومع الدول العربية من بوابتي سوريا الجغرافيا والبلد وفلسطين القضية.
وصلت التحولات إلى حد إعلان إلغاء الفيزا بين بلدان مثل إيران وتركيا وسوريا والأردن ولبنان.
وأصبح النموذج الإسلامي التركي مرجعًا لحركة إسلامية صاعدة في المغرب (عدالة وتنمية) وتونس (النهضة) ومصر (الوسط وفي حالات الإخوان أنفسهم) وارتاحت حماس للواقع التركي الجديد الذي تكامل مع علاقاتها مع إيران قبل أن يتحول إلى عامل قلق واضطراب. وتطورت العلاقات من علاقات تجارية واقتصادية مع الجارة إيران إلى علاقة سياسية ونضالية مع حزب الله اللبناني وحركات الجهاد الإسلامي في فلسطين (الجهاد وحماس).
وتحول أردوغان إلى رمز من رموز هذا التحول . وكانت أنقرة منطلقاً لمفاوضات الدول الكبرى مع إيران حول ملفها النووي ومكانًا ارتضت به دمشق لمفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. والقادة العراقيون خصوصاً ممثلي الطيف الشيعي زاروا واحداً بعد الآخر تركيا وأقاموا معها أفضل العلاقات.
حتى على الصعيد الداخلي تطورت مواقف أردوغان شخصيا تجاه المكونات التركية المختلفة فحرص على حضور احتفالات عاشوراء التي يقيمها الشيعة الأتراك وأعلن تعليقاً على أحداث البحرين وحصار ميدان اللؤلؤة بالقول لا نريد كربلاء جديدة. ومن جانب آخر، أطلق عملية تحسين العلاقات مع أكراد العراق من جهة وفتح مفاوضات سلام مع أكراد تركيا من جهة اخرى.
بل إنّ التركي أصبح ضيفًا مرحبًا به في كل من طهران ودمشق وضاحية بيروت الجنوبية وتنكب مهام عدة في حل قضايا برزت بين بعض هذه الأطراف وشركاء عرب ومسلمين.
الانقلاب بدأ مع الربيع العربي واختلاف الموقف من تطوراته في مصر بداية وموقع الإخوان المسلمين فيه. وكذلك الحراك الذي امتد إلى دمشق وحكمته ظروف تتداخل بمخاطر تخص الصراع العربي – الإسرائيلي، وبالقلق من دور الإخوان المسلمين في الحراك السوري وقد بثّت حركة الإخوان في سوريا الريبة والشك في تصرفاتها وعلاقاتها بمكونات سورية عدة. وتفاقم الأمر مع ما تفجر من خطاب مذهبي في التجييش على النظام السوري وهو خطاب لم تظهر القيادة الإسلامية التركية حيوية في التصدي له بل بدا الأمر على العكس عندما حاولت القيادة الإخوانية في مصر مداهنة خطاب مذهبي سني ضد إيران وسوريا والمقاومة في لبنان. ولم يستطع التركي أن يميز نفسه بل بدأ يشكل مظلة لهذا الخطاب الإنقسامي في حين كان مطلوباً منه أن يقوم بدور الجامع طبقًا لمسار تطور مصالحها في المنطقة والتي تقتضي الدفاع عن وحدة الأمة. على العكس من ذلك، انخرطت تركيا في الأمر السوري معتقدة انّ المعركة ستحسم سريعاً لصالح معارضة ترعى تركيا نفسها معظم فصائلها وتستضيف قياداتها ورموزها. الأمر انقلب بالضد من الرؤية التركية وتجلى بأبرز صورة مع الدخول الروسي الحربي إلى الساحة السورية.
فأصبحت تركيا معزولة بين جيرانها في محيط بحر قزوين وعلى ضفاف دجلة والفرات وقبالة جبال أرارات ومناطق ديار بكر.
تركيا الخائفة وجدت نفسها تحارب على جبهتين مع أوروبا وشمال أفريقيا من جهة ومع شرقي آسيا وجنوبها من جهة ثانية. فإذا كانت الحرب الأولى مع أوروبا مفروضة عليها بحكم الجغرافيا والتاريخ، فإنّ الحرب الثانية أوقعت نفسها بسوء خياراتها.
ولكن من الواضح أنّ في العقدين الأخيرين قد نمت لتركيا مصالح استراتيجية اقتصادية بخاصة مع إيران وروسيا، لا يمكنها الاستغناء عنها. كما أنّ المشروع الإسلامي التركي لن ينتصر وهو في حالة عداء مع نصف المنطقة المحيطة به.
هذا لا يعني غياب المسؤولية عن قوى الطرف الآخر في الوصول إلى ما وصلت إليه الأمور في طول الأزمة السورية وعرضها و بخاصة غياب المبادرات السياسية لحل الأزمة والإندفاع باتجاه واحد : الحل العسكري.
إن المبادرة للتفاهم مع تركيا الإسقاط المتزامن لثلاث مقولات:
1  أن اردوغان تحركه دوافع عثمانية والقول بأنه يتصرف بعقل سلطان وهو الذي خاض الإنتخابات تلو الإنتخابات و كانت وسيلته الوحيدة للوصول بحزبه الى السلطة.
2  الكلام المتمادي عن مشروع فارسي للهيمنة على المنطقة في حين تؤكد إيران كل يوم منطلقاتها الإسلامية للدفاع عن قضايا المنطقة. ثم إنّ دفاعها عن حلفائها في ما تسميه الدفاع عن محور الممانعة ليس بأمرٍ مستغرب لأنّ إسقاط هذا المحور  مثل العمل على إضعاف حزب العدالة والتنمية في تركيا لا يخدم سوى إسرائيل.
3  الإعتراف بأن بوتين ليس لينين ولن يتمكن من إعادة الحياة  للإتحاد السوفياتي ومن باب أولى ليس هو بحال من الأحوال القيصر الجديد.
مع وقف اختراع الأوهام  نقف عند حقائق الصراع في المنطقة ونعمل بجدية وموضوعية لفكفكة القضايا واقتراح الحلول الواقعية لها سنكتشف ان تركيا ليست عدواً بل هي حليف بالطبيعة.


عبدالحسن الأمين:موقع نور الجديد