الخوف من الجيش وتقويض العملية الديمقراطية هو الذي انتصر في تركيا على القلق المتنامي من طموحات رئيس الدولة رجب طيب أردوغان السلطوية ومن المسّ بالنظام العلماني، الذي شكّل الجيش، على الدوام، رمز الحماية له وحارس الإرث الأتاتوركي.
كل المؤشرات منذ ليل الخميس – الجمعة حتى كتابة هذه السطور، تُبيّن أنّ الانقلاب الذي ارتكز على جزء من الجيش وعلى قيادات وسطية فيه، لم يكن نتيجة مؤامرة خارجية دولية أو إقليمية، بل نتيجة صراعات داخلية وشكل من أشكال إطلاق الرصاصة الأخيرة من داخل المؤسسة العسكرية على مشروع أردوغان الذي يصفه خصومه بأنّه يحاول ضرب الديمقراطية بوسائل ديمقراطية تعزز من سلطته، إذ شكّل مسار الانتقال نحو النظام الرئاسي دليلاً على رغبة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتقال بتركيا إلى نظام رئاسي يوفر صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، تشبه صلاحيات الرئيس الأميركي وتحاكي موقع السلطان الذي يدغدغ أحلام الكثير من أنصار أردوغان بكونه القادر على استعادة تاريخ السلطنة العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي لنحو أربعة قرون.

لا يختلف اثنان في أنّ تركيا شهدت خلال تجربة حزب العدالة والتنمية منذ العام 2003، تاريخ استلامه السلطة تحت قيادة رجب طيب أردوغان، تطوراً نوعياً على مستوى التنمية الاقتصادية، فالناتج القومي لتركيا يصل إلى تريليون دولار وهو يساوي مجموع الناتج المحلي لأقوى اقتصاديات ثلاث دول في الشرق الأوسط؛ إيران والسعودية والإمارات، فضلاً عن الأردن وسوريا ولبنان.

كما أنّ حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان قفز ببلاده قفزة مذهلة من المركز الاقتصادي 111 إلى 16 في العالم. هذه الأرقام وغيرها التي يعرفها الشعب التركي وبقية الدول، جعلت من أردوغان وحزبه نموذجاً لإمكانية إحداث مواءمة بين الإسلام السياسي والحداثة، وليس خافياً أنّ الإدارة الأميركية انطلاقاً من هذه التجربة راهنت على خيار دعم تيار الإخوان المسلمين مع انفجار الربيع العربي، لكن هذه المراهنة سقطت لأسباب ذاتية موضوعية تتعلق بتيار الإخوان الذي عجز عن حماية تجربته في مصر وفي ليبيا، ولأسباب خارجية تتصل ببروز قوى وازنة في هذه الدول رافضة لحكم الإخوان من داخل التيار الديني ومن التيارات غير الدينية التي استند إليها الجيش لإقصاء الإخوان في مصر.

الانقلاب على الخيار الإسلامي في المنطقة العربية، وبروز ظواهر التطرف الديني مع سياسة إقصاء التيارات الإسلامية السنية وتصاعدها، وضعت أردوغان وحزبه في مواجهة مع السياسات الدولية وحتى الإقليمية. وعلى الرغم من محاولة بناء تحالف مع دول الخليج، إلاّ أنّ جدران الثقة بقيت متصدعة بسبب اقتناع العديد من السلطات الحاكمة في الدول العربية وفي الخليج العربي تحديداً، بأنّ تعزيز دور تركيا الإقليمي ليس أقلّ خطراً على هذه الدول من تمدد النفوذ الإيراني الذي يهدد أمن هذه الدول. فأردوغان الذي يحاول أن يقدم نفسه كزعيم مسلم على مستوى المنطقة وبسبب العلاقة شبه الأبوية بالإخوان المسلمين يمتلك شرعية دينية قد تتيح له النفاذ إلى العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، وبالتالي يمكن أن يشكل قوّة مقلقة للسلطات ولأنظمة الحكم في المنطقة.

إزاء ما تقدم يمكن رصد جملة مؤثرات شجعت خصوم أردوغان وحزبه داخل تركيا على محاولة الانقلاب؛ الحذر الإقليمي من معظم الدول المحيطة بتركيا وفي العمق العربي، الاستياء الأوروبي من سياسة تركيا في رمي كرة النازحين تجاه القارة العجوز، عدم ارتياح روسي لوجود حكومة ذات طموحات سلطانية وإسلامية على حدودها، وتستطيع أن تؤثر من خلال الأيديولوجيا الدينية على الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي وعلى حدوده، وإضافة إلى هذه العوامل يبرز عدم تحمس أميركا لسياسة أردوغان التي ظهرت بوضوح من خلال ترك تركيا شبه وحيدة في مواجهة روسيا إثر إسقاط الطائرة الروسية العام المنقضي، مع تعزيز التنسيق الأميركي – الروسي بشأن سوريا على حساب العلاقة الأميركية التركية، لا بل بدت واشنطن أقرب إلى خيار إضعاف الدور التركي في سوريا، من خلال رفض واشنطن المنطقة الآمنة شمال سوريا، لا بل دعمت القوى الانفصالية الكردية في سوريا.

وإلى هذه العوامل الإقليمية التي أنهت إلى حدّ بعيد سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران التي نظّر لها رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، والذي استقال وانكفأ في لحظة تعارض مع رئيس الحزب أردوغان، نشأ ما يمكن تسميته قلقا على العلمانية التركية من أسلمة النظام والقوانين، مع ما يرافق ذلك من ضرب للإرث الكمالي (نسبة إلى كمال أتاتورك) لصالح النموذج السلطاني، وإزاء كل هذه العوامل ثمة قناعة غربية بأنّ لتركيا دورا أساسيا في دعم تنظيم الدولة (داعش) من خلال الدعم غير المباشر وفتحها الحدود لتدفق مقاتلي التنظيم إلى سوريا والعراق عبر الأراضي التركية. وعلى الرغم من المواقف التركية المتبرئة من التنظيم فإنّ ثمّة قناعة غربية وأميركية إلى حدّ كبير بأنّ سياسة أردوغان وحزب العدالة والتنمية ساهمت في نمو الحركات الإرهابية في العالم السنيّ، ولئن كانت هذه التهمة غير دقيقة في نظر الكثيرين، فإنّه يمكن ملاحظة أنّ واشنطن وموسكو كانتا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، تطمحان إلى دور تركي جاذب كنموذج علماني متصالح مع الإسلام، وليس كنموذج إسلامي مرشح لدور قيادي في العالم الإسلامي السني.

تقاطع النظرة إلى الدور التركي بين الدول الكبرى والحركة الانقلابية في تركيا هو ما يفسر المواقف الأميركية والروسية والأوروبية التي بدت غير معترضة على الانقلاب في بداياته، وإن لم تؤيده فهي لم تعلن في ردود فعلها الأولى انحيازها إلى المؤسسات الدستورية والديمقراطية في مواجهة الانقلاب، وهذا كشف، إلى حدّ بعيد، أنّ الأطراف الدولية لم تكن مستاءة من سقوط الديمقراطية في تركيا، وإن كانت مواقفها تشير إلى حرص على عدم انجرار الأزمة إلى صراعات سياسية وعرقية تهدد استقرار الدولة الثانية عسكرياً في حلف الناتو.

أردوغان وحزبه نجحا في إسقاط الانقلاب، استناداً إلى إرادة شعبية تركية جامعة حتى لخصومه من الأحزاب المعارضة، رفضت كلها إسقاط العملية السياسية لحساب الجيش، هذه رسالة ستجعل أردوغان أمام تحدٍّ داخلي لا يقل عن التحدي الخارجي. فحزب العدالة والتنمية، كما تشير الوقائع، سيستثمر الانقلاب للمزيد من ترسيخ نفوذه على حساب المؤسسة العسكرية في مؤسسات الدولة، لكن ذلك لن يكون بالضرورة سبيلاً لتعزيز سلطة الحزب الذي بات معنياً بتقديم إجابات مقنعة تؤكد انحيازه إلى الديمقراطية واحترامه للعلمانية التركية، وفي الموازاة مطالب أن يحدّ من الانفصالية الكردية والمحافظة على الاقتصاد التركي وحمايته. ما حصل في تركيا قبل أيام ليس سوى بداية تدفع بتركيا نحو خيار مركزية السلطة وحكم الحزب الواحد، أو نحو بلورة خيارات سياسية داخلية وإقليمية لا تثير المخاوف من نشوء مركزية إسلامية طامحة لمدّ نفوذها إقليمياً، وتسعى للتخلص من العلمانية، النموذج التركي مطلوب دولياً وجرى دعمه باعتباره نموذجا علمانيا بهوية إسلامية، وليس باعتباره نموذج إسلام سياسي بذريعةٍ علمانية.

العرب: علي الأمين