تركيا ما بعد الانقلاب العسكري الفاشل، غير تركيا ما قبله. من المستحيل الآن، وتركيا في قلب الحدث، رسم مساراتها المستقبلية. حتى الآن لم تكتمل صورة ما حدث. كيف وقع الانقلاب؟ وكيف فشل؟ علماً أن خبرة الجيش التركي بالانقلابات قديمة وعميقة. أربعة انقلابات وقعت في نصف قرن ونجحت، فلماذا وكيف فشل هذا الانقلاب؟. ما هي الترددات الداخلية والخارجية التي ستقع لاحقاً، وما هي انعكاساتها على منطقة الشرق الأوسط وهي في قلب النار. أحد يمكنه حسم خرائطها وأنظمتها؟

بدايةً. أوساط سياسية وإعلامية تركية كانت تتحدث عن وقوع انقلاب وكأنه واقع اليوم قبل الغد (المستقبل في الخامس من تموز في مقالتي بعنوان «السلطان» ينفتح لإطفاء النار الكردية»). من الطبيعي جداً أن رئيس الدولة رجب طيب اردوغان وكبار المسؤولين كانوا يتابعون التحركات. تغيب اردوغان عن أنقرة واسطنبول ثلاثة أيام هل كان مبرمجاً، ليكمل الانقلابيون انزلاقهم نحو هاوية الانقلاب... وانزلقوا؟

أن يكون أحد الجنرالات المتآمرين قائد قاعدة إنجرليك التي يقيم ويعمل الأميركيون فيها، هل يمكن أن لا يعرف الأميركيون ولا ضباط المخابرات التركية؟ من الصعب جداً، لا بل من المستحيل. مصائر الدول، لا تُترك للصدف.

إذن، اذا كانت واشنطن تعلم والانقلاب وقع في الثالثة بعد الظهر بتوقيتها، فلماذا هذه «البرودة» في ردة الفعل الأميركية؟ لم تدن واشنطن الانقلاب ولم تقف مع «الشرعية الاردوغانية»! تركت الانقلاب والانقلابيين يأخذون مداهم ليفشلوا لأنهم ليسوا «محترفين». أكثر من ذلك، تلقى الانقلابيون الفاشلون درساً أميركياً في «الحِرفية» من أهم «مواد» هذا «الدرس» انه «كان عليهم قطع الانترنت وإقفال المواقع الاجتماعية» في الساعة الأولى للانقلاب، حتى لا يتواصل اردوغان مع أنصاره وأيضاً لتبقى الشرائح الاجتماعية هائمة في «ضباب» البيانات العسكرية.

هذه السرعة في القبض وإقالة جنرالات وضباط كبار وصغار من الجيش، بجميع فروعه والأمن والأهم قطاع القضاء، تؤشر ربما الى وجود «لوائح» معدّة سابقاً لإجراء عملية تنظيف واسعة علماً أن السلطات تنفي ذلك. هذه العملية التي يبدو أنها ستستمر وتتوسع. هدفها العميق والمستقبلي، إقناع المؤسسة العسكرية التركية التي حكمت تركيا مباشرة أو من خلف الستار منذ أتاتورك انها قد خسرت دورها كلاعب سياسي.

بعد الآن موقع الجيش في الثكنات، حيث «يضبضب« فيها الأزمة التي وقع فيها. كان الجيش حامي العلمانية في تركيا، قد يصبح مستقبلاً حامي الديموقراطية.

مهما قيل عن أسباب فشل الانقلابيين، فإن أمراً مهماً حصل. ليست «دموع السلطان» هي التي أفشلت الانقلاب ودفعت بالمدنيين للنزول الى الميادين والشوارع. نهوض المجتمع المدني المرتكز الى طبقة متوسطة قوية وواسعة. هذه الطبقة المتوسطة، نمت مع النمو الاقتصادي الذي أنتجته المرحلة «الاردوغانية«. لم تتقدم تركيا، بالشعارات ولا بالايديولوجية، تقدّمت ونمت بفعل سياسة اقتصادية ناجحة استندت الى مشاريع تنموية منتجة ضخمة ومثمرة.

استئصال «فيروس» الانقلابيين، قد يبدو حالياً منطقياً وعملياً وملحّاً. السؤال الى متى وأين ستستمر وتصل هذه العملية؟ هل تنزلق لتصبح سياسة تصوغ نظاماً جديداً وماذا ستكون صيغة وطبيعة هذا النظام الجديد؟ باختصار ما هو مستقبل «الاردوغانية»، التي كانت قد تصالحت مع الجيش وانفتحت على الحوار لتصفير المشاكل التي انفجرت في «وجهها» خصوصاً في المنطقة الكردية؟. أمر إيجابي أن يؤكد رئيس الوزراء بن علي يلدريم أن «المحاسبة ستكون في إطار القانون». من الجيد والإيجابي طمأنة الداخل التركي ومعه الخارج القلق على مستقبل تركيا.

رجب طيب اردوغان، قطع مسارات طويلة ليصبح «السلطان». اردوغان الحالي انطلق من «الاربكانية» الاسلامية (نجم الدين أربكان) للوصول الى «الاردوغانية» الملتزمة دون تشدد. السؤال ماذا وكيف سيكون اردوغان المستقبل؟ أمامه خياران: إما التشدد وإما التقدم باتجاه نوع من «حزب إسلامي ديموقراطي» على غرار «الحزب المسيحي الديموقراطي« في ألمانيا، فيصبح بذلك «سلطان» المجتمع المدني التركي.

سؤال كبير يتطلب إجابة سريعة فور استتباب الوضع الأمني والسياسي: كيف ستكون علاقة تركيا «الاردوغانية» بالولايات المتحدة الأميركية؟

علاقة واشنطن بأنقرة علاقة «زواج» محكوم بأواصر المصالح والحاجات. ليس بقدرة اردوغان مقاطعة واشنطن، ولا حتى استخدام ورقة قاعدة انجرليك في مواجهتها. لدى واشنطن بدائل عديدة وقد أكدت ذلك طوال الفترة التي سبقت إعادة فتحها قبل عامين. لكن هذا لا يمنع مطلقاً حاجة واشنطن الى تركيا خصوصاً في هذه المرحلة «البركانية». أنقرة بحاجة الى واشنطن في ظل تصعيد «القيصر» فلاديمير بوتين في المنطقة، والمستقبل الغامض للأكراد.

من المبكر جداً، وضع النقاط على حروف سياسة اردوغان في سوريا والمنطقة. الحل في مراوحة الموقف التركي بين التشدد والانفتاح دون التسليم «للقيصر» بما يريده. في قلب هذه السياسة «القضية الكردية» وماذا ستكون سياسة واشنطن وموسكو منها؟! يجب انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية للبناء على مقتضاها.

حصل «السلطان» على «بوليصة تأمين شعبية»، ونجح في إبعاد «العسكر» عن السلطة. لكن في الوقت نفسه، «البوليصة» لا تعني «شيكاً شعبياً أبيض». يستطيع الشعب التركي من خلال رقابة لصيقة محاسبته في أي انتخابات قادمة وأن يقول له بصوت عالٍ: «أعطنا وابقنا» أو «أعطنا وأخذنا»!

المستقبل   :  أسعد حيدر