بدا سامي الجميل في إعلان استقالة وزيري حزبه من مجلس الوزراء، كأنه يُعيد "الكتائب اللبنانية" إلى سنواته الأولى، بين تأسيسه في 1936 وانضمام رئيسه، آنذاك، بيار الجميل، للمرة الأولى إلى مجلس الوزراء في 1958، مروراً بمشاركته في النضال من أجل الاستقلال 1943.

سبب العودة، أو الاستعادة والاستحضار والمحاكاة، تلك، هو أن الحزب كان، آنذاك، ديمقراطيّاً اجتماعيّاً "يفضّل العمل في صفوف الشعب ومن أجل حقوقه" على الوصول إلى السلطة. فسامي الجميّل لم يكتفِ بإعلان استقالة وزيري حزبه من الحكومة التي باتت "رمزاً لهريان ما تبقى من الدولة"، بل أعلن استقالة حزبه من "أداء طبقة سياسية فشلت وامتهنت التقلبات واللعب بالبلد ووضع مصلحتها قبل مصلحة البلد". وقال: "هذا النمط السياسي لا يشبهنا، فنحن نعمل لبناء البلد ومستقبل أولادنا، لا لمناصب معينة. نحن نرفض منطق التعطيل ومنطق وضع مصالحنا الشخصية قبل مصلحة البلد". وتابع: "إننا نضع يدنا بيد كل الشباب من كل الطوائف والطبقات، لتحقيق التغيير الصحي والصحيح لمصلحة كل اللبنانيين".

ليس غريباً أن ينطق كتائبي، أو "الكتائب" كلّه، بهذا الخطاب العنفواني الشعبي. ففي أواسط التسعينات تردد أنَّ قيادته، التي لم تكن جميليّة، لا تُتعب نفسها بصوغ البيانات، إنما تلجأ إلى أدبيّات "الحزب الشيوعي اللبناني" في السبعينات لتستعير بياناته بما فيها من لغة طبقيّة ووطنيّة. ولطالما جمع تراث شيوخ آل الجميّل العنفوان الشعبي، الديمقراطي الاجتماعي، والسياسة الفوقيّة. وقد حملت شخصيّات شيوخ آل الجميل، الكتائبيين، هذين البعدين. يتقدم واحد منهما على الآخر بحسب الظروف والموقف والحاجة. وإذ غلب البعدُ السياسيُ البعدَ العنفوانيَّ الشعبيَّ عند أمين الجميّل، فكان بارداً مع عبارات عنفوانيّة تبدو مستعارة من قاموس العائلة والوطن والله، أدركه الحظُ بابنين توافرت فيهما الخلطة السحريّة.

وإذا كان في ذلك ما يفسّر بعض حنين "فتى الكتائب" سامي الجميّل إلى الماضي الأول، وإذا كان عمر الشاب سامي الجميّل يفسّر بعض أسرار تقدّم البعد العنفواني الشعبي، فإن المسألة أعقد من ذلك. وعلى عكس ما تبدو، فإن البعد السياسي، في لحظة سامي الجميّل الحاليّة، يبدو أقوى من العنفواني الشعبي. ويبدو هذا البعد مستخدماً من السياسة، رغم إيحاء سامي الجميّل أنه يعود إليه وينتصر له.

لا يشكك هذا الكلام في صدق سامي الجميّل وحنينه وعودته إلى السنوات الأولى والديمقراطيّة الاجتماعيّة، وميل شخصيّته إلى البعد العنفواني الشعبي. الأمر ليس شخصيّاً. الأمر سياسي. فـ"حزب الكتائب" هجر الديمقراطية الاجتماعيّة، والحياة الكشفيّة، عندما زادت لديه المخاوف الوجودية والقلق على الهوية، أيام الجمهوريّة العربيّة المتحدة بين مصر وسوريا برئاسة جمال عبد الناصر الساعي إلى توحيد الوطن العربي. وكانت أزمة 1958. وتنامت تلك المخاوف على المسيحيين وذاك القلق على لبنان وديمقراطيته وحرّيته، مع وصول الفدائي الفلسطيني إلى لبنان وفرض اتفاق القاهرة (1969) بدعم من عبد الناصر، الذي شرّع البندقية الفلسطينية وفتح الحدود الجنوبيّة مع إسرائيل. وكانت حرب 1975.

فعودة "الكتائب" إلى الاجتماعي، ولو كانت سياسيّة أو شكليّة، تطرح السؤال عمّا إذا زالت أسباب القلق على لبنان من التذويب القومي، الناصري أو البعثي. وتسأل عمّا إذا كانت تبددت المخاوف الوجوديّة على المسيحيين.

 

تبدو الإجابة "صامتة" في خطاب الرئيس الجميلي الثالث لـ"الكتائب". وفيما يهجر "الكتائب"، المستقيل من الحكومة والطبقة السياسيّة، المخاوف القومية العربية الخارجية، تراه لا يتحدّث، حاليّاً، بلغة طائفيّة ومذهبيّة عن النظام والتوازنات والحصص والداخل اللبناني. وإذ لا يمكن الركون إلى إطلالة عنفوانية شعبية واحدة، للتخيّل أن "الكتائب" بات حركة مدنيّة ولامذهبيّة، لا يمكن التجاهل أن سامي الجميّل يلعبها ذكيّة. وهو، إذ يهدد بالاستقالة من الحكومة، ثم يفعلها، يجذب القوى السياسيّة التي نسيته. وهو، إذ حوصر مذهبيّاً وصار بلا وزن في بازار رئاسة الجمهوريّة، وغيره، يستعد للقفز فوق الحواجز ولعبة الأحجام. وهو، إذ جعله وجوده في الحكومة خارج التحالفات، يبحث عن خريطة جديدة. وهو إذ يتّمه اختفاء تحالف "14 آذار"، وتنقّل الحلفاء، يتذكّر الشعب و"الشباب من كل الطوائف والطبقات". وهو، إذ حوّله تراجع خطاب السيادة والاستقلال بلا طعم ورائحة، يستبدله بالعنفوان واستعادة الماضي الحزبي. وهو إذ تكشّف لديه أن بقاءه في الحكومة لا يُسمن ولا يُغني من جوع.. يستقيل ويزهد بالمناصب.

وقصّة "الكتائب" مع المناصب ليست جديدة ولا تُختصر بوجود وزيرين له في حكومة ولا تنتهي باستقالة غير كاملة. فـ"الكتائب" حزب الدولة، ولا سياسة لديه منذ ما يزيد على ستة عقود خارج الدولة ومؤسساتها والصراع عليها. وهو لاعب أساسي في الصالونات السياسية ونادي الرؤساء والوزراء والنواب والقضاة والضباط والمديرين والموظفين.. إلى حد كان يُقال فيه إن كل كتائبي مرشح لرئاسة الجمهوريّة أو رئاسة بلدية وما إلى ذلك. وهذا بعض ما يصعب، بالنسبة إلى أجيال من الكتائبيين قبل غيرهم، تصديق فكرة الاستقالة من الطبقة السياسيّة والاكتفاء بالانتماء إلى "الشعب". علماً أن هذا التوجّه يلقى قبولاً لدى الأجيال الكتائبية الجديدة، وهو يمكّن سامي الجميّل من الإمساك بالحزب وإعادة صهر عقيدته وعصبه حول شخصه وأفكاره. وفوق هذا، يقوّي داخل الحزب العنفوانيين الشعبيين في وجه السياسيين الفوقيين.

مأساة سامي الجميّل أنّ القدر أوقفه على مسرح الوراثة السياسيّة بين عجائز لم يشبعوا من الفساد. والأمر ليس مسألة أعمار فحسب، بل مسألة مصير ودور وشخصيّة. كأنّه أسير مسرحية لا يحبّها ولا تشبهه. فليس هيّناً أن يجد رئيس حزب يفاخر بأنّه أوصل شابّين قبل أن يبلغا الأربعين من العمر إلى رئاسة الجمهورية، نفسه وحزبه هامشيين ومقيّدين. وليس ممتعاً لشاب وعد نفسه بحزب جديد، أن يجد نفسه وريث حزب قديم. وليس مطمئناً لابن الجميل، أن يصطدم داخل حزبه بمسترئسين ومستوزرين ومستنوبين. وليس رابحاً لرئيس جديد لحزب، يجمع حوله فريق عمل شبابي عصري وبراغماتي، أن يعجز عن المناورة وعن جعل دخوله حكومة أو انسحابه منها أمراً تكتيكيّاً.

هكذا، يبدو سامي الجميل يتمرّد على الواقع الذي ورثه قبل أن ينتفض على الحكومة. وقبل أن يلعن الطبقة السياسيّة يمتحن حزبه ووجهائه في اختبار الزهد بالحصص والمكاسب والمناصب. وإذ يقول إن "الكتائب" حزب الدولة يذكّر بأنّه ليس دائماً حزب السلطة والموالاة. ولعل سامي الجميّل في حركته الجديدة يعيد للانضمام إلى حكومة أو الانسحاب منها المعنى الحزبي السياسي المحلّي. ولعلها المرّة الأولى منذ سنوات وعقود، حتى بالنسبة إلى "الكتائب". وإذا كان الوزير سجعان قزي ليس من الفرحين بعنفوان سامي الجميل، السياسي أولاً، فإن أحد حماة الهيكل، جوزف أبو خليل، سيتذكّر كثيراً أيّام كان الكتائبيّون ديمقراطيين اجتماعيين وكشافة ويسعون لقانون للعمل والضمان الاجتماعي... لكنّ الأهم، كتائبيّاً، هو أن يغدو الحزب يشبه ما قاله سامي الجميل، وألا يكون ذاك العنفوان لحظة تخلّ.

 

حسان الزين.