لا يُمكن فهم الاستياء حيال صور زفاف نجل وزير الأشغال اللبناني السابق غازي العريضي، كما خبر شراء زوجته شوكولا بـ١٢٦ ألف دولار قبل ٤ سنوات، دون الإحاطة بعجز كتلة كبيرة من اللبنانيين عن المساءلة، وهو أبسط الايمان في ظل استحالة تغيير الطبقة السياسية.

أن تقرأ خبراً عن شراء شوكولا بأرقام خيالية، ثم ترى صوراً لعُرس يُحاكي في تفاصيله ومجوهراته ووروده زفافاً ملكياً أوروبياً، فهذه صدمة. لكن أن تعجز حتى عن مساءلة بسيطة لمسؤول حكومي كان صحافياً من عائلة متواضعة الحال قبل أن يصير نائباً ووزيراً، فهذا إحباط يُشبه في مفاعيله إحساس من تعرّض لاعتداء ثم مُنع حتى عن البوح بما حصل له.

وليس مبالغة القول إننا كسكان ومواطنين تعرضنا ونتعرض جميعاً لاعتداءات يومية وشهرية وسنوية نعجز عن الرد عليها بأقل قدر ممكن. وهؤلاء الحكام أو السياسيون يعيشون على كوكب آخر حصين عن مثل هذه الردود.

هم فقط قادرون على محاسبة بعضهم بعضاً وفقاً لما تقتضيه المصالح الإدارية داخل كل حزب أو ميليشيا.

وغازي العريضي بهذا المعنى ضحية لأن وقوعه في هذا القدر من الانكشاف العلني، يجعله مديناً أكثر لزعيمه بمزيد من الولاء.

وهذا حبل سري بين الزعيم وأفراد مجموعته السياسية، يثخن بارتكاباتهم. وقد يؤهله هذا الانكشاف حتماً ليكون عضواً في فريق التحضير للتوريث، أو “حاملاً للعباءة”، لو أردنا استعارة مفرد زعيم الحزب “التقدمي”.

 في كوكب السياسيين اللبنانيين، شركات “أوف شور” آمنة ضريبياً في بنما وأخواتها، وقصور وفيلات في باريس ولندن وعلى ضفاف بحيرة كومو الايطالية، وغيرها من أجمل بقاع العالم. موّل السياسيون هذا العالم الجديد من أطراف اقليمية استثمرت في الحرب الأهلية، ثم من مؤسسات الدولة في زمن السلم، ومن أموال صراعات ٨ و١٤ آذار.

مُقابل كل حجر في فيلا أو قصر، فرصة ضائعة ولبناني حزم حقيبته للإقلاع بعيداً عن بلد يضيق فينا كلما اتسع عالمهم.

في كوكبنا الكئيب حيث لا أفراح ولا وروداً ولا شوكولاته، يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر، وهاجر ثلث آخر، وينتظر آخرون فرجاً هو غالباً سراب، إما على هيئة رئيس جمهورية أو اتفاق اقليمي.

معنا في هذا الكوكب أيضاً ميليشيا تُمولها إيران وتفتح حروباً وتجلب عقوبات دولية ولا يُواجهها سوى صراخنا وبعض تصريحات سياسيين ائتلفوا معها لبناء كوكبهم.

 ليس كل السكان الضحايا لكوكبنا التعيس سواسية. لم نُشاهد جميعنا صور الزفاف بالعين ذاتها.

غالبنا ضحايا فرص ضائعة في بلد لا مقومات اقتصاد فيه ونموه بمستوى الصفر منذ سنوات طويلة. لكن هناك ضحايا أكثر فداحة يُطالبون بما هو أقل بكثير من مساءلة أو اقتصاد فاعل وشفاف.

ميشال بو رجيلي يُطالب منذ ٣٠ عاماً بقبر لوالدته ووالده اللذين قُتلا في مجزرة حي تلتيته في بحمدون المحطة عام ١٩٨٣. رأى الصور من بيته المتواضع وسط جليد الدائرة القطبية أقصى شمال السويد.

كان شعوره أكثر فداحة.

بو رجيلي واحد من عائلات آلاف الضحايا المفقودين لهؤلاء الساسة، يريدون قبوراً ممن أقلع عن هذا الكوكب.

بعد مشاهدة الصور، مشى بورجيلي في صقيع الليل وحيداً وباكياً.

 هم يحتفلون وضحاياهم ينوحون.

هذا هو البُعد الضوئي الفاصل بين الكوكبين.المدن