مع تزايد عدد قتلاه في سورية، وما يسربه الأميركيون عن تبدل ولو طفيف في الأولويات الإيرانية، تزداد الضغوط على «حزب الله» في بيئته الحاضنة خصوصاً، ولبنان عموماً، لإنهاء تورطه العسكري هناك، مهما حاول إخفاء تأفف الناس والسيطرة على غضبهم عبر حملة التجييش المستمرة وأساليب الترويع الهادفة إلى منع الصوت المعارض، وإلى التخفيف من وطأة النعوش المتقاطرة عبر الحدود، وإلى وقف الانتقادات لمسؤوليته عن تدهور علاقات لبنان العربية.

 

 

فالانخراط العسكري والأمني المستمر في سورية، في وقت يقول جون كيري إن طهران تقلص وحداتها من «الحرس الثوري» هناك، وإصرار الحزب على انه يخوض «معركة وجود» لن تنتهي قريباً على رغم الإمساك المتزايد لموسكو بالورقة السورية، والتصعيد المتعمد للمواجهة مع السعودية وسائر دول الخليج العربية، تعكس جميعها استفراداً سياسياً وأمنياً بلبنان لا يمتلك الحزب مبررات مقنعة لجعل اللبنانيين يقبلون تبعاته على أوضاعهم داخل الوطن وخارجه.

 

 

ولهذا سعى أمينه العام السيد حسن نصرالله أول من أمس، الى تطويق النقمة المتصاعدة باعتماد المزيد من التخويف تحت غطاء «تطمين» اللبنانيين الى استقرار بلدهم، مذكراً إياهم بأنه يملك وحده قرار استمرار هذا الاستقرار من عدمه، وأن أمنهم منّة منه، وأيضاً عبر محاولة زجّهم في المواجهة التي يخوضها مع دول مجلس التعاون في أكثر من «ساحة»، بتصويره أن القرارات الخليجية هدفها «معاقبة اللبنانيين جميعاً» وليس الحزب.

 

 

لكن من الواضح أن إجراءات دول الخليج في حق الحزب، وخصوصاً إلغاء السعودية منحة الأربعة بلايين دولار للجيش والمؤسسة الأمنية مخافة أن تنتقل الأسلحة إلى يده بسبب تسلطه على الجيش، وتصنيف مجلس التعاون الحزب «منظمة إرهابية» وتوعّد أعضائه باتخاذ تدابير لاحقة تنسجم مع هذا التصنيف، يضاف إليها الإشاعات الكثيرة المتداولة عن «لوائح الإبعاد»، آلمت الحزب ووضعته في مواجهة مع سائر اللبنانيين، بمن في ذلك الشيعة أنفسهم، الذين بدأوا يعانون من حصر تمثيلهم به وحشرهم تحت رايته.

 

 

وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، جرت نقاشات حادة ومتشعبة بين اللبنانيين، عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، تضمنت تساؤلات جدية عن «لبنانية» الحزب وقراراته وعن ولاءاته وأهدافه، وعن مبررات خروجه المتواصل على الإجماع اللبناني، وجدوى دفعه لبنان إلى الخروج على الإجماع العربي، وأسباب اختلال التوازن بين مكونات البلد السياسية والاجتماعية، وعما إذا كانت سياسته الخارجية مرتبطة بالأشخاص وبالحزب وحلفائه أم بالمصلحة الوطنية العامة. لكن هذا النقاش سرعان ما جلب على المنتقدين سباباً وشتائم وتعابير طائفية مقيتة اشتكى منها نصرالله نفسه بعدما شعر بأن «جماعته» بالغوا في استخدامها.

 

 

وفي كلمته، «نأى» الأمين العام للحزب بنفسه عن نزول جمهوره إلى الشارع وقطع الطرقات وأعمال التخريب التي رافقته بسبب برنامج تلفزيوني قلده، لكن اللبنانيين يعرفون أن مثل هذا «التبرؤ» يعني أن باستطاعة من أشعلوا الإطارات المطاطية في الشوارع أن يفعلوا ما يريدون لاحقاً، طالما أنه تنصل من العلاقة بهم. إذ سبق لنصرالله أن ناشد أنصاره في الماضي عدم إطلاق النار والقذائف الصاروخية في كل مرة يلقي خطاباً، لكن ذلك لم يمنعهم من مضاعفة فعلتهم في المرات التالية.

 

 

يحصر نصرالله استقرار لبنان بالأمن، في استعادة لمفهوم النظام الأمني الذي رعته سورية الأسد، ولا يرى ضرراً في استمرار الشغور الرئاسي طالما لم يُحسم مصير الحرب أو المفاوضات في سورية لمصلحة إيران، ويلجأ في الوقت نفسه إلى تكبيل الحكومة ومنعها من البت في ما يطاول حياة اللبنانيين اليومية، مثل أزمة النفايات المتعمدة، لإغراقهم في التفاصيل وصرفهم عن التفكير في احتكاره مستقبل بلدهم... ثم يحدثهم عن «الاستقرار» وهم مشغولون بالبحث عن بلد يهاجرون إليه.