مضى قرن على توقيع اتفاق "سايكس بيكو"، الاتفاق الذي رسم حدود الدولة الحديثة في المشرق العربي. ويبدو أن القرن كوحدة زمنية هو عمر الخريطة التي انبثقت عن الاتفاق، ذاك أن علامات ترنح فعلية بدأت تظهر على الكيانات الناجمة عن الاتفاق!


العراق لن يبقى عراق "سايكس بيكو"، وسوريا تترنح حدودها وجماعاتها، وفلسطين لم يتبلور كيانها ولم يُتح لها أن تكون، فيما لبنان، المهدد دائماً وأبداً، التحقت جماعتاه المسلمتان بعمقيهما الشيعي والسنّي، ومسيحيوه عاجزون عن وقف نزفهم الديموغرافي. ووحده الأردن من بين الوحدات المشرقية غير مهدد في المدى المنظور على الأقل.


نُشِئت على هجاء "سايكس بيكو". الاتفاق الذي حدد فيه المستعمر للجماعات المحلية الدولة التي ستكون جزءاً منها. أنا الشيعي اللبناني أبن القرية المحاذية للحدود مع اسرائيل، والتي تبعد عشرات كيلومترات من الحدود مع سوريا، لطالما غنيت مع مارسيل خليفة "قسْمونا بيكو وشريكو وخلقو الدولة الصهيونية".


ها أنا الآن أنظر من مسافة قرن إلى هذا الاتفاق! لماذا كل هذه الحماسة لهجائه، وقد كنت أقل الناس تضرراً منه؟ فهو اختارني أن أكون لبنانياً، لا فلسطينياً حيث كنت سأتحول لاجئاً لا أفق ولا أمل في عودتي، ولا سورياً حيث سأكون مواطناً في دولة البعث الأبدي. أي أن البديل كان إما احتلال اسرائيلي أو احتلال بعثي، وفي الحالين كنت سأنتهي لاجئاً.


في هجائي "سايكس بيكو" قدر من الجحود لم أتمكن من تحديد أسبابه. في هذه اللحظة تحديداً، أن تكون لبنانياً فإن خسارتك أقل من خسارتك إذا ما كنت سورياً أو فلسطينياً.


ففي الأولى جاء بعثٌ أنهى عقده الخامس في الحكم بقتل ثلاثمئة ألف سوري وتهجير نحو ثمانية ملايين آخرين، وفي الثانية وقع ترانسفير اقتُلع على أثره الفلسطينيون وما زالوا مقتلعين حتى يومنا هذا.


ثم أن إلحاقي أنا الشيعي إبن قضاء بنت جبيل بولاية بيروت وبعدها "لبنان الكبير" بدل ولاية عكا أو ولاية دمشق أعاد صياغة هويتي النفسية والإجتماعية والاقتصادية المعيشية، على نحو لم يكن ليتوافر لي إذا ما أُلحقت بخياري عكا أو دمشق.


ففي لبنان الكبير أنا أبن أقلية كبرى، بينما سأكون في عكا أو دمشق ابن أقلية صغرى، ثم أن لبنان قام على فكرة ائتلاف أقليات، فيما نماذج الحكم الأكثري التي سادت في المنطقة لم تتسع لإشراك الجماعات الصغرى.


قد يقول قائل إن الشيعة اللبنانيين لم يكونوا شركاء فعليين في الجمهورية الأولى، وفي هذا قدر لا بأس به من الحقيقة، لكن حجم الإقصاء الذي مورس بحقهم في حينها لم يبلغ يوماً المبلغ الذي بلغه إقصاء البعث للأكثرية السورية، ولا طرد الدولة الصهيونية جيراننا أبناء الجليل. ناهيك عن أن التجربة اللبنانية أتاحت لأبناء أطرافها تقدماً في التعليم والدخل والنشاط السياسي والاجتماعي لم تتحه تجارب دول المنطقة مع أطرافها.


إذاً ما الذي دهاني طوال هذا العمر الذي أمضيته في هجاء "سايكس بيكو" وهجاء الكيان؟ مصلحتي المباشرة تقضي التمسك بالكيان، مع سعي الى تحسين شروط الشراكة.


عليّ أن أتذكر أن ما أقدمت عليه طوال هذا العمر، هو تماماً ما يُقدم عليه "حزب الله" اليوم، أي تبديد الكيان على مذبح شراكة أكبر لن يكون الشيعة فيها أكثر من جماعة صغيرة.

فحين يُقدم الحزب على إلغاء الحدود (الاستعمارية) إنما هو يتولى مهمة إذابة خطوط الانفصال عن الجماعات الكبرى عبر توجهه كقوة أهلية لبنانية للقتال في سوريا. فلنتخيل موقع الشيعة اللبنانيين من خريطة ديموغرافية أُذيبت فيها حدود "سايكس بيكو"... فإلى روح الرجلين تحية شيعية.

 

المصدر: ناو