إنها مضايا. بلدة سورية كانت سبّاقة في استضافة الجنوبيين اللبنانيين الهاربين من العدو الصهيوني الغاشم عام 2006. لكنها أيضا كانت من أولى البلدات التي نادت مع بدء الثورة بإسقاط النظام صراحة، ما دفع جيش الأسد إلى قصفها في الشهر الأول من العام 2012، لتكر من ذلك الحين سبحة عذاباتها حتى بات أهلها يعيشون في ما يمكن تعريفه حرفيا بـ«هولوكوست»، اذ يموت السكان هناك جوعاً، ويضطر الأطفال لأكل لحوم الكلاب والقطط، والحشائش غير الصالحة للبشر.

وأمام هول المشهد، استغرب الرئيس سعد الحريري غياب الضمير العالمي تجاه الحصار على مضايا، واصفاً هذا الحصار بأنه «إعدام مدينة بسيف التجويع». وسأل في تغريدة أمس عبر موقع «تويتر»: «شهران من الحصار ومنع الغذاء والدواء عن 40 ألف مدني في مضايا. أين الضمير العالمي؟«.

الجريمة التي ارتكبتها مضايا ليس إشهارها المبكر لانحيازها للثورة، بل أيضا لأنها تقع على «طريق القدس» الذي رسمه الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله عبر الايغال في الدم والجغرافيا السوريين وصولا الى محاولة فرض محمية مذهبية لتبتلع كامل الحدود مع «بقاع لبنان الشمالي ـ الشرقي».

لهذا السبب استحقت مضايا وأهلها «العقاب» من «حزب الله» بالموت جوعا عبر حصار ممتد من 7 شهور، في مأساة سيحمل «خط الممانعة والمقاومة« وزرها لزمن طويل خصوصا وأن حكايات الموت وصوره أقسى وأوجع من أي منطق تبريري. 

ويفرض «حزب الله» حصاراً خانقاً على البلدة الصغيرة التي يعيش فيها الآن أكثر من 40 ألف نسمة، تحولت أجسادهم إلى ما يشبه الهياكل العظمية، بسبب منع الغذاء عنهم، ولم تشفع الهدنة الأخيرة التي تم التوصل إليها بين النظام والمعارضة بتحسين أوضاع المحاصرين، إذ تخرج يومياً من البلدة صور لمدنيين قضى بعضهم جوعاً، رغم أنه من المفترض بحسب بنود الهدنة فك الحصار عنهم وإيصال المساعدات إليهم.

ويشير الناشط السوري علي إبراهيم التيناوي، وهو ممثل الحراك الثوري وأحد أبرز الإعلاميين في الزبداني وريفها، إلى دور ميليشيا «حزب الله« باستغلال مأساة المحاصرين في مضايا، لافتاً في تصريحات لموقع «14 آذار» إلى أن «النظام والميليشيا اللبنانية« يسعيان لتحقيق مكاسب مادية من تجويع السكان، وقال: قام كثير من السوريين المحاصرين بالذهاب بسياراتهم إلى هذه الحواجز واستبدال سياراتهم ببضعة كيلوغرامات من الطعام مثلاً، حتى إن سعر كيلو الرز أو كيلو البرغل تجاوز أرقاما خيالية، فأصبح يراوح ما بين 200 إلى 300 دولار على هذه الحواجز التابعة للنظام و«حزب الله«. وبات المحاصرون يتندرون بهذه المسألة حين طالبوا أن تُدرج هذه الأسعار في كتاب غينيس للأرقام القياسية.

ويلخص التيناوي الوضع المأسوي في البلدة بحديثه عن إحدى الأمهات التي وجدت نفسها أمام أربع أطفال يتضورون من الجوع، حينها فقدت صوابها وأصيبت بالجنون وباتت تركض في شوارع المدينة. كما تم بحسب إفادته «تسجيل موت ما يزيد على 60 شخصاً حتى اللحظة بسبب الجوع وبمعدل بلغ شهيداً إلى شهيدين يومياً«.

ويؤكد التيناوي أن بلدة مضايا تخلو من وجود كتائب عسكرية تابعة لقوات المعارضة مقاتلة ومنظمة كما هي في حلب والقلمون وغيرها من المدن الثائرة ضد النظام «لذلك، ارتأى بشار الأسد وحزب الله إتباع أسلوب تجويع بلدة مضايا حتى الموت عبر فرض حصار مميت عليها بُعيد صيف عام 2015، بعد أن اجتمع فيها كل هؤلاء المدنيين. والغريب أن حواجز النظام وحزب الله سمحت بدخول أيٍ كان إلى مضايا ومنعت خروجهم، كما منعت دخول الإمدادات من طعام وشراب ومؤن وأدوية وأدوات طبية. وفي هذه الإجراءات خبث مُبيَت، يرمي إلى جمع أكبر عدد ممكن من الناس وتجويعهم، ومن ثم المساومة على حياتهم وربما تحقيق ترانسفير ديمغرافي وتهجيرهم على أساس طائفي، من دون أن يضطر النظام ومن معه لإطلاق طلقة واحدة أو القيام بمذبحة دموية علنية. مع الإشارة إلى أنه تم زرع المناطق المحيطة بمضايا بحقول من الألغام الفردية منعا للهروب من هذه المدينة القابعة تحت ألم الجوع«.

وبحسب التيناوي، يراوح عدد المحاصرين في مضايا بين 40 إلى 45 ألف شخص، نصفهم من البلدة، والآخرون نزحوا إليها من بقين، والغوطة، والمعضمية، والغالبية من المنطقة الشرقية لمدينة الزبداني، هُجِّروا قسرياً على يد قوات النظام وميليشيا «حزب الله».

وحذر الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أمس من ارتفاع معدل الوفيات بين الأطفال وكبار السنِّ في مضايا، نتيجة ندرة الغذاء وحليب الأطفال والأدوية اللازمة لعلاج الأوبئة والأمراض الناتجة عن الحصار، وقال في بيان إنه «يضع المجتمع الدولي، ومعهم أصدقاء الشعب السوري، أمام مسؤولياتهم إزاء ذلك«.

وقد بدأ المدنيون يفقدون الطعام بشكل كامل منذ أكثر من مئة يوم، فحاول العديد من الشباب الخروج وجلب الطعام من خارج المدينة بطرق غير شرعية، ولم ينجح أحد منهم في فك الحصار حتى عن أسرته، كما لم يعد أحد منهم سالماً.

عشرات حالات بتر الأطراف سجلت نتيجة انفجار الألغام بمن حاول جلب الطعام من خارج المدينة، وحوالى ثلاثين شاباً لقوا حتفهم وهم يحاولون جلب القليل من الطعام لسد جوع أطفالهم.

واضطر الاهالي الى أكل أوراق الشجر أو المياه المغلية مع الحامض أو المياه المغلية مع البهارات فقط، وفي الثلاثين من الشهر الفائت سجلت أول حالة ذبح كلب في المدينة، وبعدها بدأ الناس بذبح القطط والكلاب وأكل لحومها.

وقال الناشط الإعلامي من بلدة مضايا أمجد (27 عاماً) للموقع الإلكتروني «كلنا شركاء«: «الوضع مأسوي جداً، وحالات كثيرة يئس ذويهم من حياتهم، ووجهوهم لجهة القبلة بانتظار وفاتهم في أي لحظة، حتى أن أمنية أطفال المدينة الوحيدة باتت أكل البسكويت، فهم لم يذوقوا طعمه منذ زمن«. وأضاف «لم نعد بحاجة لفتاوى الشيوخ أو العلماء لكي نأكل لحم القطط والكلاب، لأننا وضعنا بين نارين، إما الموت جوعاً أو الموت بالألغام التي زرعها الحزب، والتي تحيط بسجننا الكبير، سجن مضايا المركزي«.

ويقول أبو محمد (38 عاماً) عضو المجلس المحلي في بلدة مضايا: «المستشفيات مليانة بأناس تنتظر الموت«.

وأعلنت الأمم المتحدة أمس أن نظام الأسد وافق على إدخال المساعدات الإنسانية في «أقرب وقت» إلى بلدة مضايا المحاصرة في ريف دمشق الغربي، وذلك بعد ساعات قليلة على صدور بيان للأمم المتحدة يتهم فيه النظام السوري بعدم الاستجابة لطلب إدخال مساعدات عاجلة إلى البلدة المحاصرة.

وعلقت المنظمة الدولية على موافقة «النظام السوري» على إيصال المساعدات الإنسانية إلى مضايا وقريتي «الفوعة وكفريا» في ريف إدلب، مشيرةً إلى أنها تعمل على «تحضير القوافل لانطلاقها في أقرب فرصة«.

يشار إلى أن الأمم المتحدة تنصلت من تعهداتها بإدخال المساعدات الغذائية والإنسانية إلى مضايا، وذلك في خرق لبنود اتفاق الهدنة بين «جيش الفتح« وإيران الذي كان برعايتها، من خلال عدم إرسال قافلة مساعدات إلى بلدة مضايا المحاصرة، والتي كان من المفترض دخولها قبل نحو أسبوع.

وأكدت «الحملة المدنية لإنقاذ مضايا والزبداني من واقع الموت والجوع» عدم دخول أي قوافل إغاثية إلى مضايا، لافتة إلى أن أقرب موعد ممكن أن تتم فيه ادخال المساعدات، بعد موافقة نظام الأسد، هو يوم الثلاثاء القادم، أي بعد ستة أيام إضافية من الموت والجوع المستمر.

وعلى الرغم من بشاعة المجاعة الموثَّقة بالوقائع والصور، فإن «حزب الله» خرج بالأمس ببيان عن مكتبه الحربي اعتبر فيه ان الحديث عن «تجويع المدنيين في مضايا» هو مجرد «حملة مبرمجة بهدف تشويه صورة المقاومة».