فجأة، استيقظ العالم على «اقتصاد داعش» بصفته مدخلاً لتجفيف منابع التنظيم. إنه العالم نفسه الذي صنع لـ «داعش» اقتصاده، وجعل له موقعاً في دوراته الموازية، ها هو يعود ليصنع صورة لاقتصاد التنظيم الإرهابي موازية في قبحها للصورة التي صُنعت للتنظيم في السنوات الثلاث الفائتة.

 

 

ها هو العالم يقصف اقتصاد «داعش»، وتبث محطات التلفزيون صوراً ملتقطة من الطائرات المقاتلة لقوافل من الصهاريج التي تتحول أثناء عرضها حرائق وهباء وغباراً. وفي هذه الأثناء، يتهم النظام السوري تركيا بالمتاجرة بالنفط مع «داعش» فتردّ أنقرة بأن لديها وثائق تؤكد أن علاقة نفطية تربط التنظيم الإرهابي بالنظام في دمشق، وتتضامن واشنطن مع تركيا فتكشف أسماء رجال أعمال قريبين من بشار الأسد يتولون التوسط بين النظام والتنظيم، وتُدرجهم في لوائح عقوباتها.

 

 

والحال أن كل ما ورد صحيح. نفط «داعش» يتدفق على الجميع، وسعر البرميل الواحد أقل من نصف سعره العالمي. النظام يتزوده عبر أنابيب النفط الممتدة من حقول شرقي سورية إلى دمشق، وتركيا عبر تجارٍ وسطاء يعبرون به الحدود. كذلك يُلبي نفط «داعش» حاجات المناطق التي يسيطر عليها أعداء «داعش» من فصائل المعارضة السورية، خصوصاً في محافظة إدلب. وقوافل الصهاريج التي شاهدناها تحترق بعد أن قصفتها طائرات التحالف في حقل دير الزور، ليست لـ «داعش» إنما لزبائنه من المواطنين السوريين الذين يتقاطرون لشراء نفطـ «ـه» وبيعه في مناطق مختلفة من سورية وتركيا.

 

 

ومثلما كشفت الوقائع أن التنظيم توطن في المناطق التي يسيطر عليها، وأقام علاقات متفاوتة بين الجماعات الأهلية في تلك المناطق، وهذا مغاير للصورة التي رسمت له بصفته وحشاً غريباً يفترس كل من يقع تحت أنظاره، أقام التنظيم اقتصاداً هو استمرار لنوع من العلاقات الزبائنية السابقة على نفوذه وسلطته، ووفقاً لمنطق العرض والطلب، وللاستثمار في الحاجات. فصوامع القمح في محافظتي الرقة ودير الزور لا تعمل وفق منطق الانقسام والحرب الدائرة هناك. من يريد قمحاً عليه أن يشتريه، مهما كانت هويته، وإلى أي طرف انتمى في الحرب الدائرة. لوزارة الاقتصاد السورية في دمشق علاقات تجارية مع التنظيم، ولفصائل «جيش الفتح» في إدلب أيضاً. وبما أن الأسعار تبلغ نصف مستواها السوقي، فإن الإتجار مع «داعش» أكثر إغراء وإدراراً للأرباح.

 

 

لا أحد بريء عندما نتحدث عن اقتصاد التنظيم المتوحش. لا بل إنه في هذه اللحظة يكف عن كونه متوحشاً وقبيحاً. العلاقة الزبائنية تفرض شروطاً مختلفة، وهو إذا ما قتل سائق الصهريج الآتي إليه من إدلب ليشتري نفطاً، فسيكف سائقو الصهاريج عن القدوم وسيخسر زبائن يحتاجهم لاقتصاده. كما أنه إذا ما أخل بالكميات التي يُرسلها للنظام في دمشق عبر الأنابيب فلن يُسدد له النظام أثمانها.

 

 

هذا ليس «اقتصاد داعش»، إنه اقتصاد التنظيم واقتصاد السكان في دولته واقتصاد الجماعات المجاورة. ثم إن «داعش» لم يُفكك البنية الاقتصادية والخدمية التي ورثها عن النظامين السوري والعراقي في المناطق التي انقض عليها في هذين البلدين. حقول النفط ما زالت تُدار من المهندسين والعمال أنفسهم، وهو لم يأت بخبراء زراعيين لإدارة صوامع القمح، وهذا ما يجعل استهداف «اقتصاده» موازياً لاستهداف البنية الخدمية المحلية، ويحوّل الطائرات التي تطارد الصهاريج إلى مخلوقات معادية في وعي السكان.

 

 

ثمة بطء متعمد في الإنجاز تشهده الحرب على «داعش». الأطراف المتورطون في الحرب وفي الاقتصاد وفي الغنائم لا يشعرون بالحاجة إلى نصر وشيك على التنظيم. تركيا لديها أولويات قبل تحقيق النصر عليه، بدءاً برأس النظام في سورية ووصولاً إلى حزب العمال الكردستاني. النظام في سورية وإيران وروسيا ستفقد بهزيمة التنظيم عدواً ضرورياً في الحرب الإقليمية. الغرب قبل تفجيرات باريس كان منشغلاً عن المنطقة بأزماته وتحولاته، وهو بعد التفجيرات يعيش تحت وطأة صدمة لم تُحدث تحولاً جوهرياً في الحرب على التنظيم. وفي هذا الوقت يوغل «داعش» في البنية الاجتماعية والاقتصادية المحلية، ويتحول بقبحه ووحشيته إلى جزء من تركيبة معترف بدورها في الاقتصاد والاجتماع وأنماط العيش والاستهلاك، ومن المرجح أن يُعترف لها بحقها في موتنا وفي تعميم قبحها على وجوهنا طالما أنه لا يعيق جريان هذه الوظائف.

 

 

هنا يكمن الثمن الموازي لبطء الحرب على «داعش»، أي في توطنه وتحوله قوة «عادية» ومتمكنة من إدارة مصالح تتعدى المناطق التي يسيطر عليها. أما الرعايا فسيتحولون في تعاملهم مع الأمر الواقع إلى كائنات مطوَّعة، على نحو ما طوع البعث رعاياه. وما التهويل بفظاعة سلطة «الخلافة» سوى صورة عن الانقسام، وتحت هذه اللغة تُجري الدول والقوى والفصائل والعشائر صفقاتها. فكل أهل الموصل يعرفون أن التنظيم احتل مدينتهم قبل سنة من الموعد الرسمي لاحتلالها، وأن الحكومة العراقية كانت تعرف أنه يجبي الضرائب منهم منذ 2013. وكل سكان المحافظات الشرقية والشمالية في سورية يعايشون يومياً الصفقات بين التنظيم والنظام.

 

 

الخطر يكمن في أن تتحول الحرب على «اقتصاد داعش» حرباً على اقتصاد السكان. فالصقيع الآتي إلى ادلب هذا الشتاء لن يُساعد في تحمله سوى «نفط داعش» المخفوض الأسعار، ويصح ذلك جزئياً على دمشق، وكل يوم يمر من دون هزيمة التنظيم سيساعده في التعامل مع الحاجات العادية لـ «رعاياه»، وسيزيد ذلك من إمكان قبوله قوة عادية.

 

 

حتى الآن، الحرب الفعلية هي في مكان آخر. هي بين موسكو وأنقرة، وبين طهران وأنقرة أيضاً. «داعش» الذي يُراد لنا أن نكون صورة عن قبحه ليس سوى قناع في هذه الحرب. يتوغل الجيش التركي في العراق فتنتفض حكومته لكرامتها الوطنية، بينما تعبر الصواريخ الروسية من فوق أرض بلاد الرافدين مقفلة المطارات من دون أن تنبس «حكومة الكرامة الوطنية» ببنت شفة. هنا، في هذه المعادلة يكمن الجوهر الفعلي للصراع، وتحته يجرى اقتصاد وتجرى صفقات ويكون برد وسلام.