حتى صبيحة نهار البث المباشر الطويل، يوم الثلاثاء الماضي، من منطقة جرود عرسال اللبنانية، لم يكن اللبنانيون قد اقتربوا إلى هذا الحد من معاينة مقاتلي «جبهة النصرة».

رأوهم بأم العين وعاينوا قاماتهم وأسلحتهم وسياراتهم وأعدادهم، كما رأوا أبناءهم العسكريين بين أيديهم قبل تسليمهم إلى الجانب اللبناني ضمن صفقة تبادل. قبل معاينة هذا المشهد كانت «النصرة»، التي لا تفصلها، في مواضع معينة، سوى مئات الأمتار عن حواجز الجيش اللبناني في المنطقة، مجرد خبر، أو صورة في الخيال اللبناني العام. الثلاثاء الماضي تأكدوا أن «جبهة النصرة» تحتل، بالمعنى الحرفي للكلمة، جزًءا غير قليل من جرود تمتد على مساحة 450 كيلومترا مربًعا في لبنان. لم يرد عموم اللبنانيين التوقف عند هذه الحقيقة الاحتلالية كثيًرا. ضحكوا على أنفسهم بتغييبها تحت ستار نجاح التفاوض أولاً، وتحت ستار التضامن العاطفي مع الأسرى المحررين، بشكل عابر لكل أشكال الاصطفافات السياسية والحزبية.

عثروا في الفرحة الجامعة بحرية عسكرهم، على مساحة مشتركة بدت كأنها بديل بلاد ما عادوا يعثرون عليها أو يعرفون إليها سبيلاً. إلى عموم اللبنانيين، لم يرد حزب الله أن يعترف بحقيقة ما شاهدناه على شاشات التلفزة أيًضا. ما كان يرغب أن يصل إلى الحد الذي يفرض عليه التفاوض مع «النصرة» وتقديم التنازلات لها ومقايضتها أسماء نفخها وسمنها في إعلامه بوصفها أخطر منتجات الإرهاب الذي يحاربه ويأسره ويوقفه ويحاكمه. بين من أفرج عنهم في الصفقة، جمانة حميد، التي شكلت مادة تعبئة لحزب الله، وُصنع منها أسطورة إرهابية محترفة، قادت السيارات المفخخة، وهَّربت الانتحاريين، وغيره، ليعترف مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بطل صفقة التبادل، أن حميد وآخرين أُقفلت ملفاتهم، وباتوا مواطنين عاديين!! أبهذه البساطة تقفل ملفات «إرهابيين كبار» من طراز جمانة حميد، أم أنها ليست أصلاً من هذا الطراز؟ بدا الحزب أسير بطولاته الوهمية، وأسير السقوف التي ما برح يرفعها.

كان لافًتا أن يحتفل إعلام الممانعة والمقاومة بالدور الأساسي لحزب الله وأمينه العام حسن نصر الله في إتمام الصفقة، من دون أي مراجعة لمواقف الحزب العلنية والكثيرة الرافضة للتفاوض والمحذرة من مخاطره وانعكاساته على لبنان ومناعته وسلامته. فجأة صار الرجل المؤتمن على صيانة لبنان من «فخ» التفاوض هو عراب العابرين إلى الفخ بلا تردد أو وجل.

الموضوعية تفترض القول إن كل تفاوض يمر بمنحنيات وتعرجات، وتتغير الأسباب المتدخلة في سياقه، لكن الأكيد أن بين الأسباب التي أبقت العساكر اللبنانيين في الأسر 16 شهًرا، هو موقف حزب الله الذي مانع التفاوض وخّون الداعين إليه، قبل أن يرضخ ويفاوض ويسهل منضًما إلى جهود قدحها وذمها. كثيرة هي الصفعات التي وجهتها «جبهة النصرة» لحزب الله، أقلها الاستعراض الميداني المسلح لمقاتليها.

فنصر الله الذي يشيع في كل إطلالة وعبر كل منتج إعلامي ودعائي لحزبه، أنه انتصر على «الإرهاب» و«حرر القلمون»، ووقف سًدا منيًعا في وجه «التكفيريين»، وجد نفسه وجًها لوجه معهم على أرض لبنان وأمام عدسات الكاميرات، بينما مقاتلوه يسقطون في حلب!!

وهو في الواقع لا يملك جواًبا حقيقًيا للبنانيين الذين هالهم احتلال «النصرة» لأرض لبنانية، ما لم ينجح في تبرير احتلاله لأراض سورية في القلمون، أو تبجحه وتبجح حزبه بإتقانهم أسماء التلال ورؤوس الجبال التي يسيطرون عليها داخل سوريا. كأن ما قالته «النصرة» في عراضتها: «لحزب الله هواية تسلق الجبال ولنا السفوح». وهو ما قد تكون كرسته الصفعة الإضافية التي وجهتها «النصرة» لحزب الله ولبنان مًعا عبر الاتفاق الذي أعلن عنه، والذي يفيد بجعل «منطقة وادي حميد منطقة آمنة للاجئين»!!

الأرجح أن لا ضمانات تحول دون أن يكون هذا الوادي اللبناني الواقع خلف بلدة عرسال، منطقة آمنة لـ«النصرة» وليس للاجئين فقط، طالما أن «النصرة» استعرضت وجودها بالشكل الذي فعلت.

بالتالي، وبعد نحو أربع سنوات من دعاية حزب الله ودعاية حربه على الإرهاب، وتورطه في الواقع في حرب على الشعب السوري لحماية نظام قاتل، خلصت المفاوضات إلى الموافقة عملًيا على «نصرة لاند» تشبه ما كانته «فتح لاند».

يكفي أنه يعيش في هذه البقعة، غير الخاضعة لسلطة الجيش اللبناني، أكثر من ثلاثة عشر ألف لاجئ سوري، هم بحكم المصلحة أو العقيدة أو غريزة الثأر من حزب الله، جمهور طبيعي لـ«جبهة النصرة» وبيئة حاضنة لهم.

كذبات كثيرة سقطت على شاشات النقل المباشر لصفقة التبادل بين لبنان و«جبهة النصرة» وحقيقة واحدة بدت واضحة لكل من تابع. ثمة بلاد كان اسمها لبنان وسوريا دمرها «رجال الله» المتسيدون على «جبهته» و«حزبه».

نديم قطيش