لا كلام يقال لوصف المشهد الدموي جراء التفجيرين الارهابيين في محلة عين السكة - برج البراجنة في الضاحية الجنوبية. تكفي مشاهد الأشلاء المتناثرة في كل جوانب الحي التجاري المكتظ غالباً بالناس والباعة، وصراخ الناجين من الموت المحتم، وصدمة الأهالي وصور الخراب والدمار، ناهيك عن المحصلة الكبيرة لعدد الضحايا؛ وتكفي أيضاً رؤية والد يبحث عن ابنه مذعوراً مخطوف الأنفاس.. يسأل بذهول "أين إبني؟ كان هنا والآن إختفى"، تكفي هذه المشاهد وتفاصيل أخرى صغيرة، لكنها مؤلمة، لإدراك بأن ما جرى كان كبيراً بكل المعايير والدلالات. وإذا كان للسياسة والأمن والقضاء مسالك في التعامل مع ما جرى، فإن للقيم الإنسانية والاعتبارات الأخلاقية قوانين يجب أن تحترم، وخصوصاً في التعامل مع معاناة أناس فقدوا أعزاء وأَحبة، ستستمر، ربما، لسنوات. لذا، فإن إعلان الحداد، وإن لم يكن رسمياً، أقله واجباً.

 

للتفجيرين أهداف فتنوية ظاهرة، وهو الأمر الذي فوتته ردة الفعل الشعبية التي واجهت الارهاب بمزيد من الوحدة والتعالي والتضامن، لكن متابعة الحدث كشفت عن أخطاء في حمى ردات الفعل والتعاطي الإعلامي مع الكوارث؟

 

"داعش" والفتنة

 

في اليوم التالي للحادثين المؤلمين، 13 تشرين الثاني، وفيما انشغل الجميع من أقارب وأحباب بمواساة أهالي الضحايا بما أصابهم من ألم، وانشغلت الأجهزة الأمنية بالتحقيقات لكشف هوية المنفذين وكيفية حصول التفجيرين، وتحليل ما وراء المخطط الإرهابي، وانكبت البلديات على لملمة وإزالة آثار الدمار والخراب من المكان، انشغل البعض عن قصد بـ "إكمال المخطط الداعشي"، فقام عدد كبير من الحاقدين بنشر الفتن عبر مواقع التواصل الإجتماعي، ملقين سيلاً من الاتهامات الطائفية والمذهبية الموثقة بصور لمنفذي الإنفجارين وأسمائهم وجنسياتهم المزيفة!

 

وإذ حسمَ "داعش" الأمر بإعلانه عن المنفذيين، فلسطينيان وسوري، ازدادت حمى النقاشات واشتعلت الفتنة أكثر فأكثر من على كل المنابر الإفتراضية.. لتكشف التحقيقات الأولية أنهما إنتحاريان، وليسا ثلاث، وأحدهم سوري الجنسية فيما الآخر غير مكشوف الهوية حتى الآن وأن "الشبكة الإرهابية المسؤولة عن التفجيرين وتفجيرات أخرى في مناطق أخرى مؤلفة من سوريين ولبنانييْن".

 

خطأ مبرر؟

 

إعلامياً، انشغل الإعلام اللبناني بنقل الواقع "كما هو"، لكن على طريقته. فقد اعتاد المشاهد اللبناني مع كل حدث أمني مفاجئ، أن تبرز الأخطاء التي قد تطغى على الحدث نفسه، ونصبح أمام حدثين إثنين منفصلين. قناتا "الجديد" و"LBCI" قررتا مواساة الأهالي واستنكار الانفجارين المزدوجين بالنزول إلى ساحة الجريمة وفتح الهواء لأهالي برج البراجنة والمحللين السياسيين والأخصائيين الإجتماعيين لمناقشة ومقاربة الأحداث والتناقضات. قرار متوقع من إدارة مدركة لرسالة الإعلام الحقيقية، لكن المفاجأة كانت بأن الإعلاميين تحولوا فجاة إلى "جيل زافين جديد". إذ كما يبدو، فإن معظم الاعلاميين متأثرين بطريقة الإعلامي زافين قيومجيان في الحوار. فمثلاً، في محادثة يفترض أنها انسانية بحتة يسأل الإعلامي جورج صليبي طفل الشهيد محمود شحيمي (50 عاماً) ويقول له: "حين علمت أن والدك قد استشهد ماذا فعلت؟ فرد أحمد: إنقهرت. أكمل صليبا: يعني صرخت وبكيت؟ فقال الطفل "نعم"، لا يكتفي صليبي بهذا القدر من المعلومات، فيكمل مسترسلاً: "هل تشعر أنك تستطيع تحمل مسؤولية والدتك واختك؟ فيجيب أحمد وتأثير الصدمة ما زالت ظاهرة على وجهه: "نعم"...

 

بدورها، لم تكن الإعلامية ندى اندراوس مقصرة في هذا الإطار حين سألت والدة الشهيد سامر حوحو التي ظلت حاضنة صورة إبنها "شفتي الجثة"؟ أما مراسل قناة "المنار" علي رسلان الذي وجه الميكروفون نحو الطفل حيدر ابن الثلاث سنوات وهو بحالة لا يحسد عليها بعدما شاهد والديه يحترقان أمام عينيه وسأله: وين الماما والبابا؟ ليرد حيدر: "في السيارة"!!.

 

شهود العيان اكتفوا بالتعليق "مشهد لا يوصف.. الدماء في كل مكان". أمام هذا المشهد السوداوي، تتبدل كل القواعد السابقة في نقل الواقع وتغطية الحدث ويصبح خير الكلام ما قل ودلّ، فالمشهد وحده كافِ لإظهار الواقع.

 

عذر أقبح من ذنب!

 

أما عن الأخطاء التي برزت من اقتحام خلوة والد فقد إبنه أو استجواب طفل ما يرزح تحت تأثير البنج في المستشفى "احترافية" لا تجدي نفعاً. لكن، هذه التصرفات لم تكن الأقسى وقد نجد تبريرات تبرؤها لأنها فردية، فربما ارتباك المراسل أمام موقف هو الأصعب في العمل الصحافي، أو كفاءته المتوسطة أوقعتاه في الخطأ، لكن ما هو غير مبرر إنسانياً وأخلاقياً ومهنياً ووطنيةً، هو موقف قناة "MTV" قررت أن تتناسى كل ما حدث بعد أقل من 24 ساعة وتبث حلقة جديدة من برنامج استعراضي، في وقت لم تُشيع جثث بعض الضحايا بعد! في مستهل البرنامج قدّم الإعلامي وسام بريدي التعازي باسم القناة بالضحايا، وفي كلمات مختصرة علق: "إرادة الحياة تبقى أقوى". هكذا، انشغلت القناة بعالم الهرج والمرج والضحك المصطنع والدلع والتمثليات المكررة التي تملأ الفراغ في الوقت الضائع، فيما المشاهد يسأل: هل مصير 18 مشتركاً في البرنامج أهم من مصير 43 عائلة استشهد أبناؤها و239 أخرى ما زالت مفجوعة.

 

ملاحظة أخرى من وحي التغطية الإعلامية، وهي تكرار وقوع وسائل الاعلام بالخطأ نفسه، وهو استسهال عرض مشاهد الجثث والأشلاء والجرحى، من خارج القواعد المهنية والأخلاقية التي تحكم هذا الموضوع، في وقت كان لافتاً أن اعتداءات باريس التي حصلت بعد يوم واحد وأوقعت عشرات الضحايا لم يكشف الإعلام الفرنسي عن شيء منها، وظلّ متمسكاً بتقاليده وقيمه التي تحترم الانسان حياً وميتاً! كل ذلك أمور وملاحظات لا تكمن خطورتها في التأثير المباشر بقدر ما تعكس مؤشرات لحال المجتمع والإعلام في التعامل مع مصائبه.

 

لبنان 24