على الأغلب، لم تشهد قاعة المحكمة العسكريّة الدائمة جلسة تشبه تلك التي عقدت أمس. الخلافات العائليّة بين عائلة الشهيد ربيع كحيل من جهة وزوجته من جهة أخرى، لم تبق بين «أربعة حيطان»، وإنّما قرّرت العائلة أن تنقلها على الملأ إلى داخل المحكمة. ولكن ما كانت العائلة تفكّر به، سرعان ما بدّدته الزوجة.   لا أحد كان يعلم هويّة الجالسين على المقعد الأوّل المخصّص عادةً للمدعى عليهم. رجل اتّشح بالأسود وامرأة أربعينيّة جلست على مقربة منه، وضعت يدها اليمنى على حقيبتها فيما تمسكت باليد الأخرى بالمسند الخشبي المركّز أرضاً.   أمّا الشابّة المرتدية «روب» المحامين، فجميع الذين يتردّدون إلى المحكمة يعرفونها. إنّها المحامية ضياء حمود، زوجة الشهيد كحيل. مرّت 3 أشهر على مقتل الضابط في الجيش، وما زال الحزن يعلو ملامح وجهها. آثار التعب والأسى بادية تحت عيني امرأة فقدت زوجها قبل أن يتمّ ابنها ربيع الأربعين يوماً.  

جلست حمود إلى جانب زملائها الذين فُهم أن بعضهم ينصحها بترك القاعة قبل دخول أحد المدعى عليهما بقتل زوجها إيلي ضو (المدعى عليه الثاني هشام ضو فار من وجه العدالة). قليلة هي الكلمات التي تفوّهت بها، فيما كان إصرارها على حضور الجلسة أقوى من النصائح.   وما إن حان موعد الجلسة حتى اقتادت العناصر الأمنيّة إيلي ضو من نظارة المحكمة نحو المنصّة المثبتة على قوس المحكمة. تقدّم المحامون إلى المنصّة الأخرى المخصّصة لهم، فيما اندفعت حمود من الجهة الأخرى. هي لم تنبس ببنت شفة، بل تسمّرت في مكانها تنظر إلى المتّهم بقتل زوجها. اغرورقت عيناها بالدموع التي استقرّت في أحداقها، من دون أن تمنعها من التمّعن بضوّ، ناقلةً نظراتها من رأسه وحتى أخمص رجليه. كانت دقّات قلبها تتسارع ظاهرة على «الروب» الذي يعلو وينخفض، محاولةً أكثر من مرّة أن تلتقط أنفاسها.   بقيت «الأستاذة» تحدّق بالرجل الماثل أمامها والذي لم يحرّك ساكناً، ينظر إلى الأرض حيناً وإلى هيئة المحكمة حيناً آخر. ربّما لم تنتبه إلا متأخرة إلى الأصوات التي علت داخل القاعة، حينما وقف الرجل يتلفّت نحو المنصة، فيما المرأة تصرخ بأعلى صوتها «قتلتوا لخيي يا ...» والتلفّظ بكلمات لم يفهم منها شيئاً. حاول العسكريون أكثر من مرة التدخّل لتهدئتها، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، وهي تردّ عليهم قائلةً: «أنا لا أعرف أحد، أنا بس بعرف انو خيي مات. هيدا قتلوا».

  الصراخ علا أكثر عندما تقدّم المحامي معن حميّة إلى قوس المحكمة، مسلّماً أوراقاً لم يعرف فحواها. عندها، هبّ الرجل صارخاً، ليتبيّن أنّه عمّ الشهيد، ويريد أن يعرف ما هي الأوراق التي قدّمها حميّة. صوت شقيقة الشهيد وعمّه التقيا عند نقطة واحدة: «شو فيها هل الورقة؟ فيها إسقاط؟ (إسقاط الدعوى عن المدعى عليهما الإثنين هشام وإيلي ضو المتهمين بقتل كحيل)».  

وعلى الفور، تدخّل رئيس المحكمة العسكريّة العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم، فأشار إلى «أنني في الجلسة القادمة لن أدخل أحداً»، مؤكّداً أنّ «تصرفّكِ غير مقبول، ولا أقبل أبداً بإهانة المحكمة ولا بالتعرّض لأي محامٍ، وأنا مضطر إذا تكرّر الأمر أن أتخذ إجراءات بحقّك مهما كانت الظروف. أنت هنا مشاهدة ومستمعة فقط لا غير»، لتعود وتتدخّل «جاي شوف اللي قتل خيّي».   وشدّد ابراهيم على أنه تقصّد إدخال العائلة إلى قاعة المحكمة لمرّة واحدة وأخيرة، «وسأقرأ الأوراق علناً إذا وجدت الأمر لازماً»، ملاحظاً الخلافات العائليّة بين الزوجة من جهة وشقيقة الشهيد وعمّه من جهة أخرى.   وسرعان ما توجّه المحامي حميّة نحو المنصة ليتحدّث أمام الميكروفون حتى يسمع الجميع كلامه، فلفت الانتباه إلى أنّه «هنا أمثّل الشهيد كحيل»، معبراً عن ثقته بالمحكمة «لتبيان الحقيقة كاملة».   هذه الحقيقة، أجّجت الغضب عند الزوجة التي تحدّثت للمرّة الأولى خلال الجلسة، اقتربت من المتّهم قائلة له: «الحقيقة كاملة.. سمعت؟ الحقيقة كاملة.. وليس نصفها أو ربعها». ما دفع بابراهيم للتدخّل مجدداً، متوجّهاً إلى حمود بالقول: «أنت زوجة الشهيد ولكن أنت محامية»، لتعود بعد دقائق وتحاول الاقتراب من ضوّ الذي حاوطه العسكريون من كلّ جانب. لم تستطع الوصول، ولو بالنظر، إلى خصمها، فصرخت: «يا حضرة العميد مش معقول يوقفوا (العسكريين) بيني وبينه، نحن راسمين حدودنا»، ليمنعها ابراهيم عن ذلك.   في المقابل، كانت العائلة تنظر إلى زوجة الشهيد ومحاميها على أنّهما خصم. هكذا بدا للعيان. عمّ الشهيد وشقيقته لم يكونا يريدان في هذا الوقت إلا الإطّلاع على الأوراق، ظنّاً منهما أنّ الزوجة تريد إسقاط الحقّ وأنها ستستولي بالتالي على الإرث وديّة القتل، لا سيّما أنّها والدة ابنه القاصر!   ولكن صُعقت العائلة عندما تلا المحامي حمية قرار الزوجة ثمّ أكدها العميد ابراهيم بالأوراق التي اطّلع عليها. قالت الزوجة كلمتها من دون أن تعلنها بنفسها: «أنا لا أريد المال». 

فأعلن حميّة أنّ أرملة الشهيد طلبت من المحكمة الجعفريّة بتعيينها وصيةً بالجسد (حضانة ومأكل وتربية..) على الطفل القاصر ربيع ربيع كحيل، ولا تريد أن تكون وصيّةً وصاية ماليّة عليه، وأن يتمّ إيداع أمواله في حساب خاص له، ولذلك فقد تمّ تعيين أحد القضاة الشرعيين وصياً مالياً على الطفل، ما يعني عدم إمكانية أي كان من سحب هذه الأموال وإلا تعرّض للمحاسبة القضائيّة، بالإضافة إلى حصر المفاوضات أو إسقاط الحق الشخصي في قتل كحيل إلى القاضي نفسه.   صدم الجميع من قرار الزوجة التي رفعت عن كاهلها المسؤولية المالية ومسؤولية إسقاط الحق التي اتهمت فيها، مكتفيةً بأن تكون أماً ترعى ابنها القاصر وحسب.   وما إن سمع عمّ كحيل بهذا القرار حتى وقف، يطلب الكلام قائلاً للعميد ابراهيم الذي منعه من الكلام: «أريد أن أريّحك، فإذا كان هذا هو قرار الزوجة فإنها مشكورة، وأريد أن أقول أن لا خلافات عائلية على الإرث وأي خلاف بين العائلتين لن يحصل أبداً، بل على العكس هي ام الصبي، ولتأخذ دور الأم لتحافظ على الصبي وماله، وأنا معها للآخر. ولكن من يريد إسقاط الدعوى عن القاتلين فإنه مثله مثل المجرمين إيلي وهشام ضو، وهمّنا الوحيد أن تأخذ العدالة لربيع كحيل مجراها».   وبالتالي، أسقط قرار الزوجة الاتهامات المسبقة التي وجّهت إليها، لتعود شقيقة كحيل بالصراخ: «يا حضرة العميد خلي يبرم (ضو) لعندي، خلي يتطلّع فييّ»، وانهمرت الدموع على خديها. حمود التي تقف بين زملائها، لم يرق لها الأمر، طالبةً من شقيقة زوجها أن لا تبكي: «ما تبكي يا هناء، ما تبكي».   انتهت الجلسة، قبل أن يعلن العميد ابراهيم قراره بأن تكون الجلسة المقبلة في 1 شباط 2016 سريّة «حفاظاً على دمّه، لأنّ كرامة الشهيد بتعزّ علينا كتير».   ولكنّ الجلسة الأولى الصاخبة لم تنتهِ. كانت العناصر الأمنية تحيط بضوّ حتى يمرّ من باب القاعة نحو النظارة، إلا أنّ عمّ كحيل وشقيقته سارعا إلى طرف القاعة بغية الهجوم على ضوّ، وهما يكيلان له الشتائم. في حين سارع العسكريون إلى إخراج ضوّ. ومن الباب الرئيسي خرج الرجل والمرأة مسرعين نحو الشارع.

السفير