أثار "الحراك" المدنيّ والشبابيّ المسألة الطائفيّة في لبنان، من دون أن يثيرها بصورة مباشرة أو صريحة.

 

فإذا صحّ أنّ إسقاط النظام الطائفيّ يبقى تمنّياً ورغبة نبيلين، لا توجد القوى القادرة على إنجازهما، فهذا لا يلغي اصطدام اللبنانيّين بالواقع الطائفيّ لدى تعاطيهم مع أيٍّ من شؤونهم. ولقد أعيد اكتشاف هذه الحقيقة المُرّة مع انفجار مشكلة يُفترض أنّها بسيطة، بل بديهيّة، كمسألة النفايات.

 

لهذا، وبغضّ النظر عن القدرة التي تحظى بها الطائفيّة ونظامها، فمشروعٌ جدّاً، إن لم يكن واجباً، التفكير بالتقدّم، ولو مليمتراً واحداً، على طريق التخلّص منها.

 

وفي سياق السعي هذا، لا بدّ أن يشكّل درس الحالات غير الطائفيّة التي عرفها تاريخ لبنان الحديث واحداً من بنود هذا المشروع المديد والطَموح و... الصعب.

 

ففضلاً عن تجارب محدودة التأثير، كـ"حركة الوعي" الطلابيّة و"الحزب الديمقراطيّ" في أوائل السبعينات، وقبلهما وفي موازاتهما تجارب يساريّة صغرى كانت أبرزها "منظّمة العمل الشيوعيّ"، عرف لبنان تجربتين مهمّتين قيّض لهما أن توجدا في معظم المناطق اللبنانيّة: "الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ" الذي يرقى بأصوله إلى أواسط العشرينات، و"الحزب السوريّ القوميّ"، قبل أن يُضاف إليه نعت "الاجتماعيّ"، والذي أسّسه أنطون سعادة في 1932. (هذا مع وجاهة الاعتراض على علمانيّة الأخير من زاوية أنّه يعامل أبناء ديانة بأكملهم، أي اليهود، كطفيليّين وأعداء جوهريّين لا يسري عليهم التغيّر، وما على "الأمّة" إلاّ التخلّص منهم!).

 

ذاك أنّ دراسة هاتين التجربتين قد ترتّب بعض الفائدة القابلة للتثمير في جهود الساعين إلى تجاوز الطائفيّة ذات يوم. وفي حالة كهذه يُناط بدراسة كهذه أن تسدّ بعض الثغرات التي لا بدّ من سدّها.

 

وغنيّ عن القول إنّ الأسطر القليلة هذه ليست الميدان الصالح لمهمّة تتطلّب جهداً شاقّاً ودؤوباً تتولاّها حلقة بأكملها من الدارسين. مع ذلك لا بأس بالمغامرة بطرح بعض العناوين التي تبقى أقرب إلى اللامفكّر به لدى تناول التجربتين هاتين.

 

فهل كان الحزبان المذكوران لاطائفيّين فعلاً، أمّ أنّهما طائفيّان على نحو محوّر، بمعنى اتّساعهما للأقلّيات المسلمة منها وغير المسلمة، في مقابل ضيق الحضور السنّيّ فيهما؟ واستطراداً على التجربتين المذكورتين، هل يواجهنا أيّ استعصاء توفيقيّ بين التقليد الحزبيّ "الحديث" والتقليد السنّيّ "القديم" العازف عن الحزبيّة؟

 

وأهمّ من هذا، أيّ أثر لعبه العداء للدولة – الأمّة اللبنانيّة عند القوميّين السوريّين، أو افتراضها مسألة لا تستحقّ الاكتراث عند الشيوعيّين، في تظهير عجز الطرفين حيال الوضع الطائفيّ؟ يحضر في البال هنا وقوف الحزبين ضدّ الناصريّة في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات لاعتبارات إقليميّة أساساً، ثمّ وقوفهما، منذ السبعينات، تحت راية منظّمة التحرير الفلسطينيّة و/أو "سوريّا الأسد". في المرّة الأولى شكّل الأمر تتويجاً للقطيعة مع السنّة، وفي الثانية، تتويجاً للقطيعة مع المسيحيّين!

 

واليوم، في آخر المطاف، نلقى طائفيّة مستفحلة القوّة وأحزاباً لا طائفيّة (أو "لا طائفيّة") تسترضي الطائفيّين وتسير ذيليّاً وراءهم.

 

 

المصدر: ناو