لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السابع والسبعين بعد الاربعمئة على التوالي.
تمر الأيام والأسابيع بكلفة باهظة وموجعة على اللبنانيين، نتيجة تحلل جسم دولتهم المتهالك وفقدانه أبسط شروط «المناعة» و «المنعة»، ما أوجد بيئة حاضنة لكل أنواع «الجراثيم» التي تمتهن صناعة «الموت البطيء».
ولكن هذا الموت كان أسرع مما توقعه شوقي النجار الذي سقط ضحية إقفال مدخل أحد جسور المشاة في الدورة بأكوام النفايات، فقُتل دهساً خلال عبوره الطريق، ليُعلن «الشهيد الأول» لأزمة النفايات!
ومع ذلك، لا تزال هذه الأزمة عصية على الحل، من دون أن تنجح خطة الوزير أكرم شهيب و«شركاه»، حتى الآن، في العبور من الورق الى الشارع، بفعل «الممانعة الشعبية» التي تواجهها في المناطق المقترحة لـ«استضافة» مطامر المرحلة الانتقالية، من دون إغفال التساؤلات المتداولة حول مدى متانة الغطاء السياسي لهذه الخطة.
والمفارقة في هذا المأزق، أن كلاً من أطرافه يملك من المعطيات والأسباب ما يسمح له بأن يظهر على حق.
الحكومة محقة ـ من وجهة نظر البعض ـ في التمسك بخطتها المصنفة، وفق معيار الواقعية، بأنها أفضل الممكن أو الحل الأقل سوءاً قياساً على الاحتمالات الاخرى.
والناس وأهل الحراك المدني محقون أيضا - من وجهة نظر البعض الآخر - في الاعتراض والاحتجاج، لأن التجارب علمتهم أنه لا يمكن الوثوق في هذه الدولة التي تجعل المؤقت دائما، وتقول شيئا ثم تفعل شيئا آخر، وبالتالي ما الذي يضمن الالتزام بالمهلة المحددة للمرحلة الانتقالية وبالمواصفات العلمية في إنشاء المطامر وبتنفيذ وعود المشاريع الإنمائية؟
إنه «رُهاب النفايات» بل «إرهاب النفايات» الذي يهدد ما تبقى من مقوّمات الاستقرار الاجتماعي في لبنان، على حافة «الوقت الضيق»، خصوصا أن فصل الشتاء يقترب، ومطر أيلول المفترض قد يباغتنا في أي لحظة، مع ما يعنيه ذلك من «تسييل» للقمامة المتراكمة الى أمراض.
ولأن خطة شهيب ولجنة الخبراء هي الورقة الأخيرة المتبقية بحوزة الحكومة، فإن وزير الزراعة سيخصص الساعات المقبلة لآخر محاولات «التبشير» بالخطة، ساعياً الى إقناع رافضيها بالعدول عن موقفهم، وهو سيشارك اليوم في اجتماع لجنة البيئة النيابية الذي سيليه بعد الظهر لقاء مع جمعيات بيئية ومجموعات من الحراك المدني، على أن يعقد غدا في «البيال» لقاء موسعا مع فعاليات عكار.
ولكن.. ماذا لو أصر المعترضون على خيارهم، وأخفقت السلطة في تقديم الضمانات والتطمينات لهم، وسط أزمة الثقة المستفحلة بينهم وبينها؟
لا يخفي الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط ميلهما الى أن تستخدم الحكومة عندها جميع الوسائل التي تراها مناسبة، لتطبيق الخطة.

بري: لدينا «مزبلة سياسية»
وأكد الرئيس بري أمام زواره امس دعمه لخطة الحكومة الرامية الى معالجة أزمة النفايات، مشددا على انه لا يزال عند موقفه الداعي الى تطبيقها بكل الوسائل الممكنة.
ولفت بري الانتباه الى ان المشكلة لا تقتصر على النفايات العضوية، إذ هناك ايضا «مزبلة سياسية» تفوح منها الروائح الكريهة.
وشدد على أن طاولة الحوار ستستكمل مناقشة البند الرئاسي في الجلسة المقبلة، معتبرا ان أحدا لم يكن يتوقع ان نتوصل الى اتفاق من الجلسة الاولى، ولذلك لا يصح إصدار الأحكام القاسية والمسبقة على الحوار، قبل أن يأخذ مداه وفرصته.
وأشار الى أنه سيحرص على التزام المتحاورين بجدول الأعمال المحدد، «وقد تدخلت أكثر من مرة في الجلسة السابقة لتصويب النقاش»، موضحا أن مخاوف البعض من أن تتحول هيئة الحوار الى مؤتمر تأسيسي هي مفتعلة وليست في محلها.

جنبلاط: الى أين؟
ومع ارتفاع منسوب الرفض لخطة شهيب في الشارع، أكد النائب وليد جنبلاط لـ «السفير» أن هذه الخطة هي الحل العملي الوحيد لمعالجة أزمة النفايات، مستغربا التهييج الإعلامي الحاصل وما يرافقه من فوضى شعارات ومطالب، بدءا من النفايات وصولا الى إسقاط النظام.
واعتبر انه يجب أن تكون لـ «الحراك المدني» قيادة «تعرف متى وكيف تلتقط لحظة الحلول العملية، وإلا فإنهم يعطلون علينا، وبالتالي يتسببون باستمرار هذا الدوران في الحلقة المفرغة»، طارحا سؤاله التقليدي: الى أين؟
وشدد على أن خيار المطامر إلزامي في المرحلة الانتقالية، لافتا الانتباه الى أن علينا جميعا أن نتحمل المسؤولية ويتحمل بعضنا بعضاً، من صيدا الى المصنع مرورا بالناعمة وعكار، ومحذراً من أن التحركات العشوائية للحراك المدني بدأت تعطي مفعولا عكسيا، وتواصلها على هذه الحال سيغرقنا في النفايات أكثر فأكثر.
وأضاف: لقد وصلت رسالة جمعيات البيئة و «الحراك»، ووصلت رسالة محطات «ال بي سي» و «الجديد» و «أم تي في»، ولكن ماذا بعد ذلك؟ وكيف يمكن إسقاط النظام كما يطالب البعض ممن يتحركون في الشارع؟
وتابع: ان وضع قانون انتخاب جديد وعصري هو الذي يحقق طموحات المحتجين والمتظاهرين في تغيير الطبقة السياسية، لكن إقرار هذا القانون يحتاج الى وجود رئيس الجمهورية، وأنا لا أرى في الوقت الحاضر أن انتخابه ممكن لان هذا الأمر ليس عندنا في لبنان، إلا إذا كان لدى «ال بي سي» و «الجديد» و «أم تي في» حل للأزمة الرئاسية أو لأزمة النفايات.
وأكد جنبلاط أنه يجب في الوقت الضائع ألا نستمر في جلد أنفسنا بأزمة النفايات، وليس هناك من حل سوى ما طرحه الوزير شهيب، منتقدا بعض السياسيين الذين يستغلون الجزء البريء من الحراك ويحرّضون على الحكومة والمطامر في الوقت ذاته.
وختم بالقول: لا نستطيع أن نبقى على هذه الحال، وإذا تواصل تعطيل الخطة، فعلى الحكومة أن تنفذها بالطريقة التي تراها مناسبة.

شهيب.. والـ «فوبيا»
أما وزير الزراعة أكرم شهيب، فأكد لـ «السفير» أن خطة النفايات ليست مجمدة، لأنها بمثابة الخرطوشة الأخيرة ولا خيار أمامنا سوى تنفيذها، مشيرا الى انه سيشرح حقيقة الخطة ويوضح كل أبعادها خلال اللقاءات التي سيعقدها اليوم وغدا مع جمعيات الحراك المدني وممثلي المناطق المشمولة بالمرحلة الانتقالية.
وقال: إذا كانت الاعتراضات تنطلق فعلا من حيثيات بيئية وتقنية فإن كل شيء قابل للأخذ والرد، وبالتالي إما أن أقنعهم وإما أن يقنعوني، وفي النهاية، المشروع المقترح لمعالجة النفايات ليس منزلاً.
وأبدى شهيب خشيته من أن يكون البعض قد حوّل الذريعة البيئية الى متراس، تتلطى خلفه اعتبارات سياسية، منبّهاً الى أن الملف لا يحتمل ترف «الدلع»، وكل يوم يمر من دون المباشرة في تطبيق الخطة، يؤدي الى تفاقم المخاطر الصحية الناتجة من الانتشار العشوائي للنفايات وعمليات الحرق التي تتسبب بنشر السموم.
ولفت شهيب انتباه أهالي المناطق المعترضة الى أن الخطة ستؤمن لهم مجالات للتنمية وفرص عمل، ناصحاً إياهم بمقاربتها من دون انفعال ومواقف مسبقة، ومشيرا الى ان هناك من بات مصابا بـ «فوبيا النفايات».
وطالب من يأخذ على المرحلة الانتقالية افتقارها الى المعايير البيئية «بأن يقدم بديلا أفضل، وأنا جاهز لمناقشته والأخذ به»، لافتا الانتباه الى أن الخطة واقعية، ولا بدائل منها، ومعتبرا ان الكلام حول تصدير النفايات هو «طق حنك».
وحذر من أن الإخفاق في تطبيق الخطة سيعني أنه لم يعد هناك مبرر للحكومة، قائلا: المسألة لا تتعلق بمصداقية هذه الحكومة بل بسلامة اللبنانيين، ولا أعتقد انه ستبقى قيمة لمناقشة أي ملف آخر إذا عجزنا عن حل أزمة النفايات.
«الحراك».. والمفاجآت
في المقابل، واصلت مجموعات الحراك المدني ضغطها على الحكومة في الشارع، محتفظة بزمام المبادرة من خلال «مفاجآت» متنقلة، حطت إحداها امس أمام «عاصمة» سوكلين في الدورة، (المقر الرئيسي للشركة)، حيث رميت كميات من النفايات عند المدخل، فيما تؤكد أوساط العديد من حملات الحراك أن خطة شهيب لا تستوفي الشروط البيئية، لا سيما خلال المرحلة الانتقالية، التي تعتمد على المطامر وتتجاهل قاعدة الفرز من المصدر، إضافة الى ان المواقع التي تم اختيارها للطمر تنطوي على مجازفات بيئية ومقايضات غير مقبولة بين النفايات والإنماء