داني حداد

تحتفظ والدة الشهيد بصوره في أرجاء المنزل كلّه، بالإضافة الى صورة صغيرة، من يوم تخرّجه من المدرسة الحربيّة، حاملاً السيف، تخفيها في المكان الأقرب الى قلبها. لا تزال الأمّ ذات الرداء الأسود الذي لم تخلعه منذ حزيران 2013 تذكر جيّداً ذلك النهار. "زلغطت" لابنها طويلاً ثمّ مسحت دمعتَي فرح تسلّلتا نحو وجنتيها الوردّيتين. خُطف لون الوجنتين منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي سمعت فيه نبأ استشهاد ابنها البكر، في ما سمّي بـ "أحداث عبرا". كانت تحلم بابنها "ضابط قدّ الدني"، فإذا بها تشهد عليه نائماً في نعشٍ أبيض يرقص به رفاقه...

 

لم تبتسم أمّ الشهيد في الجيش عند سماعها خبر إلقاء القبض على أحمد الأسير. لم تعمد الى خلع الأسود، ولم تكرّر الزلغوطة إيّاها. سحبت تلك الصورة الصغيرة وراحت تداعب وجه ابنها، كأنّه من لحمٍ ودم. كأنّه عاد صغيراً حين كان لا يرضى أن ينام إلا بعد أن يلقي برأسه على رجليها وهي تمرّر يدها في شعره وتتمتم صلاتها بصوتٍ خافت.

كانت تصلّي كثيراً ولا تزال. إلا أنّ المتسبّب بقتل ابنها كان يصلّي أيضاً. وكان شيخاً وله أتباع، وبعضهم يدافع عنه حتى اليوم، ويصفه بالبريء أو يطلب له "محاكمة عادلة". أيّ صلاةٍ هذه التي تنتهي بقتل 19 عسكريّاً في الجيش؟ أيّ ذنبٍ اقترفه هؤلاء حتى يقتلهم أحمد الأسير وأتباعه؟ أيّ شيخٍ هذا الذي يقتل ويشتم ويحمل السلاح ويفرّ من العدالة ويتنكرّ ويزوّر جواز سفر...؟

 

ليلة السبت، نامت والدة الشهيد باكراً كعادتها. هي تعاقب نفسها على غيابه، فلا تخرج من المنزل إلا نادراً، ولا تستقبل الزوّار إلا عند الضرورة. تريد أن تبقى وحيدةً مع صور ابنها. تمسح الغبار عنها مرّات عدّة في اليوم الواحد. تضع وروداً حولها. تقبّلها، تعانقها، وتبكي. كلّ يومٍ تبكي. كلّ ساعةٍ تبكي.

أما ليلة السبت، فحلمت، أثناء النوم، بأنّ غرفة واحدة صغيرة تجمعها بأحمد الأسير. لم تشتمه ولم تضربه ولم تقبض بيديها على عنقه كما كانت تتمنّى دائماً. نظرت في عينيه للحظات، فنظر الى الأرض. سحبت الصورة الصغيرة، قبّلتها، ثمّ مرّرت أصابعها على شعر ابنها بهدوء كأنّها تدعوه الى النوم... بسلامٍ هذه المرّة.