لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثالث والاربعين بعد الاربعمئة على التوالي.
من الواضح ان تأجيل تسريح الضباط العسكريين أفضى الى تأجيل تسريح الازمة أيضا، بعدما قرر العماد ميشال عون المواجهة في الشارع وبـ «السلاح الابيض»، ما لم تنجح جهود المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم في سحب الفتيل قبل اشتعاله كليا.
وإذا كان تحرك ابراهيم ينطلق من مبادرة رفع سن تقاعد العسكريين، في سياق تعديل متكامل لقانون الدفاع، فان فرز المواقف المعلنة والمضمرة حيال هذه المبادرة يوحي بان مهمة «اللواء» ليست سهلة، وإن تكن غير مستحيلة، علما ان الرئيس فؤاد السنيورة كان جازما في تأكيده لـ«السفير» ان المشروع المقترح يذهب في تهوره الى أبعد من الجنون.
والارجح، ان ابراهيم المعروف بـ«نَفَسه الطويل»، وبخبرته في التفاوض مع ممتهني الخطف، لن يستسلم بسهولة امام تكتيكات السياسيين اللبنانيين، من دون ان يتجاهل صعوبة المهمة التي تطوع لها.
وأكد ابراهيم لـ«السفير» انه مستمر في مسعاه لتأمين تفاهم على اقتراح تعديل قانون الدفاع، مشيرا الى ان اتصالاته مستمرة مع كل الاطراف المعنية.
وشدد على ان مبادرته لا تزال قائمة، وقيد النقاش، لافتا الانتباه الى انها مدروسة بدقة، ومن شأنها ان تؤدي الى ترشيق المؤسسة العسكرية وليس العكس.
وأوضح ان رفع سن التقاعد جزء من كل، مشددا على ان التعديل المقترح لقانون الدفاع هو تعديل متكامل وغير جزئي، وبالتالي لا يؤثر على مالية الدولة وهرمية الجيش، وليس صحيحا انه سيرتب أعباء مالية باهظة على الخزينة، او انه سيؤدي الى انتفاخ في عدد العمداء على حساب التوازن الهرمي.
وأضاف: لا أحد لديه الحق في ان يعطي رأيه في ما لا يعرفه بتاتا، او ما لا يعرفه كاملا.
قصة المبادرة
ولكن، ما هي القصة الحقيقية لمشروع رفع سن التقاعد للضباط؟
مع اقتراب قائد الجيش العماد جان قهوجي من الوصول الى سن التقاعد، طرح اللواء ابراهيم مبادرة تقضي بتعديل قانون الدفاع الوطني، في إطار السعي الى إيجاد توافق حول تأجيل تسريح قهوجي (للمرة الاولى). يومها رُفضت المبادرة من قوى سياسية عدة، وبالتالي وُضعت جانبا واصبحت خارج التداول، فكان التمديد الاول لقهوجي.
مؤخرا، وبعدما لاحت في الأفق السياسي مؤشرات أزمة جديدة مع قرب انتهاء خدمة قهوجي ورئيس الاركان والامين العام لمجلس الدفاع الاعلى، أديرت مجددا محركات المبادرة التي كان ابراهيم قد أطلقها سابقا.
ويروى انه خلال عودة النائب وليد جنبلاط واللواء ابراهيم على متن الطائرة ذاتها من باريس، قبل فترة، حضّ رئيس «التقدمي» مدير الامن العام على تفعيل مبادرته وفعل شيء ما لمنع تفاقم الامور، على وقع التصعيد السياسي المترافق مع دنو موعد انتهاء خدمة القادة العسكريين.
وبالفعل، تحرك ابراهيم في اتجاه الرابية اولا، لمعرفة موقف عون من احياء اقتراح رفع سن التقاعد للضباط في إطار تعديل قانون الدفاع، فكان جواب الجنرال هو الآتي: أنا موافق على كل ما يمكن ان يقونن أي إجراء او عمل داخل المؤسسات.
التقط ابراهيم إيجابية عون، وحاول ان يبني عليها في خضم سباق محموم مع المهل الزمنية.
زار ابراهيم الرئيس نبيه بري ووضعه في أجواء اقتراحه، فأكد له رئيس المجلس ان الاقتراح «قابل للقبول».
لاحقا، تبلغ بري ان عون لم يعد متحمسا للاقتراح، ثم انقضت الايام وانقطعت أخبار المبادرة المتجددة، الى ان التقى ابراهيم بالوزير علي حسن خليل خلال افتتاح مسجد في بلدة كوثرية السياد، مسقط رأس المدير العام للامن العام.
كان خليل يجلس الى جانب ابراهيم الذي همس في أذن المعاون السياسي لبري قائلا: الجنرال عون مستعد لمعاودة البحث في مشروع رفع سن التقاعد، وأتمنى عليك نقل ذلك الى دولة الرئيس.
وعندما تبلغ بري من معاونه السياسي إمكانية تحريك مشروع رفع سن التقاعد، احس رئيس المجلس بان استمرار التأرجح بين القبول والرفض، يضفي شيئا من عدم الجدية على هذا المشروع.
ولمزيد من التدقيق، طلب بري من معاونه السياسي التشاور مع قيادة «حزب الله» ليعرف منها ما إذا كانت مطلعة على مستجدات المبادرة المطروحة والمسار الذي تسلكه، فاتصل الوزير خليل بالمعاون السياسي للامين العام للحزب حسين خليل الذي نفى علمه ببعض التفاصيل الطارئة.
وأمام ضبابية الصورة، أكد بري لابراهيم انه لن يقول نعم او لا للاقتراح ولن يعطي أي ضمانة على هذا الصعيد، في انتظار حسم القوى الاخرى مواقفها منه، مشيرا الى ان المطلوب بلورة «اقتراح جدي» حتى يبنى على الشيء مقتضاه.
في هذا الوقت، كان عون يتمنى على المدير العام للامن العام مناقشة تفاصيل الاقتراح مع الوزير جبران باسيل.
وبالفعل زار ابراهيم وزير الخارجية واستفاض معه في النقاش الذي انتهى الى تأكيد باسيل استعداد «التيار الوطني الحر» للمضي في مبادرة تعديل قانون الدفاع، لكنه استمهل بعض الوقت للتشاور مع «القوات اللبنانية»، لان إقرار المبادرة يتطلب المشاركة في جلسة تشريعية في مجلس النواب، ما يستوجب على قاعدة «إعلان النيات» التنسيق مع «القوات» حول فتح المجلس وجدول الاعمال المفترض.
وعشية جلسة مجلس الوزراء، الاربعاء الماضي، عاود ابراهيم التواصل مع بري، وأبلغه ان «التيار الحر» ماض في اقتراح رفع سن التقاعد للضباط.
وهنا، سأله رئيس المجلس: ..وماذا عن موقف «القوات اللبنانية» التي أراد «التيار» استمزاج رأيها؟ فأجابه ابراهيم: لم يأت الجواب بعد.
ثم كان ما كان في جلسة مجلس الوزراء، وما تلاها من قرار بتأجيل تسريح القادة العسكريين في الجيش.
بري.. والتظاهر
وفيما نفى الرئيس بري أمام زواره أمس إطلاقه اي مبادرة في اتجاه الرابية، اشار الى ان من حق عون ان يدعو الى التظاهر للتعبير عن موقف، شرط عدم تعطيل الحياة العامة.
ولفت الانتباه الى ان «الطبخ ماشي» في المنطقة، وكنا نفترض ان لبنان سيكون من أوائل الذين سيتلقفون نتائج الاتفاق النووي، فإذا بنا نتلهى بقشور داخلية، وبتصرفات منفّرة وغير مسؤولة.
واعتبر ان التواصل السعودي - السوري الذي حصل مؤخرا إيجابي، لكن كان من الافضل عدم تسريب الاخبار عنه، سواء من هذا الجانب او ذاك، حرصا على إنجاحه عملا بقاعدة «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
وقال بري في مقابلة مع صحيفة «الاهرام» المصرية تنشر اليوم، ان انتخاب رئيس لبناني يحتاج الى مساعدة سعودية - ايرانية، متسائلا: كيف أحترم نفسي إذا انتخبت العماد عون رئيسا فيما هو يصفني بعدم الشرعية؟ وأشار الى انه طلب من الرئيس تمام سلام عدم الاستقالة، معتبرا ان أزمة النفايات في منتهى السخافة والدناءة وتحركها التجارة والسمسرة.
السنيورة.. و «الجنون»
أما على الضفة الاخرى، فان رئيس «كتلة المستقبل النيابية» فؤاد السنيورة قال لـ «السفير» تعليقا على اقتراح رفع سن التقاعد للضباط: أنا أعرف ان هناك جنونا، لكن لم أكن أظن للحظة اننا سنصل الى أبعد من الجنون. وأضاف: بصراحة، ما يجري طرحه هو تدمير للجيش وانا لا استطيع ان اجد العبارات المناسبة التي يمكن ان تصف فداحة هذا الامر.
وتابع: بمعزل عن الجانب المالي، هناك آثار مدمرة للاقتراح المتداول على مستوى بنية المؤسسة العسكرية، وأنا أدعو فقط الى التمعن في الجيوش الاخرى في العالم وما إذا كان أي منها قد ارتكب مثل هذه المغالطة.
وعندما يقال للسنيورة ان تأجيل تسريح القادة العسكريين بالطريقة التي تمت إنما شكل استفزازا كبيرا لعون، وان المشروع المقترح يعيد تصويب الامور، أجاب: لقد أعطي العماد عون مئة سلم لكنه رفض أن ينزل على أي منها، وتمسك بالبقاء على الشجرة..
«التيار الحر»
لكن مصادر قيادية في «التيار الوطني الحر» أبلغت «السفير» ان مبادرة اللواء ابراهيم لا تزال حية، لافتة الانتباه الى ان إقرارها لا يتوقف على قبول السنيورة او عدمه، غامزة في هذا المجال من قناة النائب وليد جنبلاط الذي يستطيع المساهمة في تأمين الاكثرية المطلوبة في مجلس النواب لإقرار تعديل قانون الدفاع بالتنسيق مع بري، إذا كانت هناك رغبة في احتواء الازمة وتجنب تدحرجها نحو الأسوأ.
واعتبرت المصادر ان عون ليس عالقا على الشجرة وبالتالي لا يحتاج الى سلم للنزول، «ونحن لم ولن نفتش عن سلالم التسويات المذلة، أما من يفترض انه نجح في استباق مفاعيل الاتفاق النووي وانه تسلق السلم الى حيث يريد، فهو واهم وستبين له الايام انه لم يصل الى مكان»، مشددة على ان «الانقلاب الذي حصل مرحلي».
وكشفت المصادر عن ان عون رفض في ربع الساعة الاخير، قبل التمديد للقادة العسكريين، ثلاثة عروض تخدم المصلحة الشخصية للعميد شامل روكز، وهي: تأجيل تسريح روكز شأنه شأن العماد جان قهوجي واللواء وليد سلمان واللواء محمد خير، ترقية روكز الى رتبة لواء، أو ترقيته ضمن مجموعة محدودة ومنتقاة من الضباط الى رتبة لواء.
وقالت المصادر ان عون أبلغ المعنيين بالوساطات والعروض معارضته شخصنة الحلول وتفصيلها على قياس هذا الضابط او ذاك، مؤكدا ضرورة معاملة جميع ضباط الجيش بالمثل على أساس احترام معايير القانون والدستور، ورفضه تمييز روكز عن غيره من الضباط، كما ان روكز نفسه لا يقبل تخصيصه وحده بترقية او تأجيل تسريح.