الانفعال العاطفي او السياسي لن يقود الى نتيجة في بحث الواقع السياسي للدروز في لبنان وسوريا. فلا فكرة وليد جنبلاط عن مستقبل هذه الطائفة تستند الى رؤية او استراتيجية، ولا لخصومه من استراتيجية تتيح توقع المستقبل القريب. يعيش جنبلاط زمن الخيبات الكبرى. فهو غير مستعد لنقد ذاتي لأنه يعرف ان نقداً كهذا سيقوده هذه المرة، فعلاً، الى نيويورك. اما الاخرون، فلم يطرحوا بعد الفكرة التي تخرج هذه المجموعة من دائرة الانعزال الاخذة في التثبت وقائع يومية.

من خارج الجماعة، ينظر الآخرون الى الدروز، اليوم، ليس كمجموعة بشرية لها تاريخ موروث من العادات والتقاليد والافكار والصفات، بل كمجموعة تائهة، تطلب الحماية، ومستعدة لأداء اي دور يبقيها على قيد الحياة. ويتصرف هؤلاء على ان غالبية حقيقية بين الدروز تعيش حالة «الطائفة القلقة» بينما فيها اقلية ترفض الحياد، لكن فعاليتها لا تقلب المعادلة.
سقطت فكرة الدولة الوطنية في لبنان وسوريا. ولم تعد انظمة الحكم القائمة حالياً تنفع كبديل يستقطب اقلية كحالة الدروز اليوم، كما لا وجود لقوى سياسية او فكرية قادرة على خلق حافزية لدى الجمهور لبناء مستقبل الاجيال المقبلة. انه واقع يقود الى استنتاج اليم: الدروز، اليوم، يقفون عند باب دوار، وكل حراكهم يعيدهم الى النقطة الصفر!
في حالة سوريا، تبقى الدولة السورية، على حالتها الصدئة اليوم، آخر الملاذات التي تتيح لهذه المجموعة التحول الى مواطنين لا يرتبط مصيرهم بمرجعية دينية او سياسية. وكل انتقاد لاداء الحكم في سوريا، او فشل الحزب الحاكم في جعل الانصهار واقعاً حقيقياً، لا يمكن الاستناد إليه للوقوف في صف معارضة لقيطة غير معروفة الاب والام. واي مراجعة دقيقة لمواقف الشخصيات السياسية والاعلامية، وحتى الدينية، التي تدعو دروز سوريا الى الانخراط في صفوف المعارضة المسلحة، تظهر ان هؤلاء، جميعا، ابناء الفكرة التي تقول ان مستقبل الدروز في بناء علاقة بدولة اقليمية قوية، على قاعدة مقايضة الرعاية والحماية بالتبعية ودور المستخدم. وفي حالة دروز سوريا، لا يمكن اختيار هذه الدول من قائمة تراعي الاذواق، كما هي حالة وليد جنبلاط وشخصيات درزية معارضة للحكم في سوريا. فلا تركيا، بصيغتيها الاسلامية او العلمانية، قادرة على أداء هذا الدور، ولا الاردن في حالة قوة ليفعل ذلك، وحتى لو اراد التطوع لهذا الدور، فما هي العائدات المباشرة التي يبحث عنها... ولذلك، سيكون من الضروري رمي السؤال الصعب في وجه الجميع، وكل من يعنيه الامر، وعلى نحو خاص، كل من له دور بين الدروز: هل غير اسرائيل في الاقليم من يقبل هذه المهمة؟


استمرار مبايعة الزعامات
التقليدية يعني الانعزال
اكثر، ويعني تراجع الدور
والوقوف عند حافة الانهيار



سيكون من الضروري، ان يخرج يوماً ما من يقدم سردية علمية ومنصفة لعلاقة الدروز بالدولة السورية. وسيتضح التوزيع العادل للمسؤوليات عمّا قادنا الى حالتنا الراهنة، لكن انخراط المجموعة في مؤسسات الدولة، كحال البقية من الاقليات السورية، جعلها لعقود طويلة بعيدة جدا عن السؤال الوجودي. ربما هناك اسباب كثيرة تدفع الى التساؤل عن سبب التخلف الاقتصادي والاجتماعي والتراجع التعليمي لدى هذه المجموعة، لكن، ليس من المنطقي تجاهل الاسباب الناجمة عن العقل الجمعي لهذه المجموعة، من طريقة التفكير في العلاقة مع الاخر، الى طريقة التعامل مع الاستحقاقات الوطنية الكبرى. كان يفترض لما قام به دروز جبل العرب بقيادة سلطان الاطرش ان يوفر المقابل الذي لم يحصل عليه شيعة جنوب لبنان يوم طردوا المحتل الاسرائيلي. هنا نعود الى مأزق الدولة الوطنية القادرة على استيعاب مواطنيها، لكن الفارق، في حالة سوريا، ان جمهورية البعث اتاحت توازنا ــــ في ظل حكم احادي ــــ لخلق فرصة الاندماج الكلي في المجتمع، ولجعل الاندماج يأخذ كل الاشكال من حيث السكن والعمل والتجارة والاختلاط، لا ان يقتصر على الاستفادة من منافع الدولة فقط.
في هذه الحالة، يمكن ملاحظة المشترك السلبي بين العقل الجمعي لدروز لبنان وسوريا وفلسطين. انه المشترك القائم على بناء الاسوار من حول تجمع جغرافي، يجعل التفاعل مع الاخر رهن ما تقرره المرجعية الاجتماعية او السياسية او الدينية. وهو المشترك الذي جعل دروز فلسطين يختارون منطق تبادل الخدمات مع كيان العدو، حتى تحوّل جزء من هؤلاء الى طرف في لعبة القهر لبقية عرب فلسطين. وهو المشترك، الذي جعل دروز لبنان مختطفين بصورة دائمة على يد مرجعية، توهمت القدرة على بناء الدولة المستقلة، عشية واثناء الحرب الاهلية، ثم قررت زعامتها، بعد اتفاق الطائف، ان تبقيها داخل المنزل، وتذهب هذه المرجعية لتحصّل لها بعض القوت من مغانم سلطات غير دائمة، لينتهي الامر على حال من العجز عن المبادرة والتفاعل، حتى وصلت الى حد لم تعد قادرة على أداء اي دور مفصلي في مستقبل لبنان.
وهذا المشترك – النموذج، الذي يراد لدروز سوريا اعتماده اليوم، هو خيار من يقف على تل، وهي اللعبة الاحب لقيادات مثل جنبلاط، بحيث يبقى متفرجاً على ما يجري من حوله، ويكون مستعدا لعقد الصفقة مع الاقوى والمنتصر بين المتنازعين. هو المشترك الذي يراد لدروز سوريا ان يكونوا اسراه، حتى اذا حصلت الفاجعة، تراهم يرفعون الصوت طالبين الحماية والحصانة. وفي حالة سوريا اليوم، لا النظام قادر على تمييزهم كجماعة، ولا المعارضة تهتم لمراعاة خواطرهم، واصلا، لا شفاعة لاحد عند المجموعات التكفيرية القاتلة. فالى اين يكون المفر: مع الاسف، الى اسرائيل، التي تستعد عمليا، لا نظريا، لأداء دور الحضن المستعد لاستقبال هذه الجماعة، و»لمّ شملها» مع ابناء جلدتها من دروز فلسطين، لكن اسرائيل لا تفكر لهؤلاء في دور يتجاوز دور من يشغل حزاما امنيا يكون فاصلا بشريا بين كيانها والشمال الشامي.
واذا كان فريق محور المقاومة لا يقدم اليوم تصورا خاصا يغري الدروز بالانضمام اليه، فان ما يقترحه الفريق الاخر، الذي ينطق جنبلاط باسمه، ليس اكثر من تخيير الدروز بين الانتحار ذبحا وقتلا على يد «الثوار»، والتوجه صوب اسرائيل طلبا للحماية. وما لا يريد جنبلاط الاقرار به، ليس فشل كل ما تبناه من سياسات خلال العقدين الاخيرين، بل يرفض مغادرة مربع التخيل بأن هناك امكانية لابقاء زعامته التقليدية على قيد الحياة لجيل جديد. وبهذا المعنى، يمكن تفهم حالة التردد التي طالت عند ابنه تيمور، قبل ان يقبل، رغما عنه، مهمة يعرف جميع من يزور القصر اليوم انها تفوق حجمه وقدراته بكثير.
بيد ان اسرائيل وحدها من يفكر في الامر جدياً، وكل اجهزتها مستنفرة منذ اسابيع للعمل على هذه الفكرة. واذا ما كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة، يسير في مشروع تقسيم سوريا، فان الخطوة الاولى ستأتي من الجنوب، وسيكون «وهم» الدويلة الدرزية، اول اسفين، يسبق بسنوات كثيرة، «وهم» انتاج دويلات اخرى وسط الشام وشمالها وغربها.
المشكلة، انه لا يوجد اليوم من يؤدي دور الناصح، لكن الممكن، هو ان يفكر الناس في مصيرهم وحدهم، وان يتجاهلوا عمدا، نصائح وتصورات الاخرين، وليكن كل الاخرين، حتى اذا وصلوا الى خلاصة وقرار، يستعدون لدفع الثمن. وهو ثمن بات الزاميا على مجموعة، ظلمها الاخرون وزعماؤها، حتى اوصلوها الى حدود الوقوف عند حافة هاوية سحيقة!