رداً على الضربة الإسرائيلية للقافلة العسكرية التي كانت تقودها إيران في إحدى بقع الجولان الخالية من الجيش النظامي السوري ومن المجموعات المسلحة، الجهادية وغير الجهادية، كانت عملية "حزب الله" في شبعا ضد قافلة اسرائيلية. اعتبرت مدروسة، حكيمة وذكية، خصوصا ذكية؛ لأنها تمكنت من الثأر لقتلى الحزب وإيران من دون أن تجرّنا الى حرب شبيهة بتلك التي عرفناها في صيف 2006. صحيح ان الأمور لم ترسُ على نهاية، وبقيت مفتوحة على احتمالات ردّ إسرائيلي على الردّ الإيراني، ولكن هذه المرة تغيرت أشياء كثيرة.

لم يعد الحزب بصدد "نصر إلهي تاريخي استراتيجي"، كما زين لنا عام 2006؛ تراجع في البطولة وتحول الى مجرد "نصر آخر"؛ على الرغم من تكرار تلك المعزوفة العائدة الى زمن آخر، من ان العملية ضد اسرائيل نجحت لأنها "كسرت معادلة الشرق الاوسط الجديد"، فان لغة الأبطال المقاومين تغيرت، وصاروا يعتمدون جملة من المفردات الجديدة، على رأسها:  "تغير لعبة قواعد الاشتباك" بين الحزب وإسرائيل، أو، ان الحزب صار "رقماً صعباً" في المعادلة الشرق اوسطية، لتعيد ظل ياسر عرفات وتوقظه من سباته الأبدي... والتبدل اللغوي الأقوى تلاحظه، في تأكيد القرار الإيراني، في خطاب حسن نصرالله، كما في كتابات ناقلي شروحاته، الذين لا يعدوننا بأقل من عشرات الآلاف من عناصر الحرس الثوري الإيراني، سوف يتوافدون الينا بكل عتادهم وسلاحهم؛ أو الذين يبتهجون بالنقاط التي احرزتها ايران مع اسرائيل بعد عملية شبعا.

لماذا هذا الوضوح المفاجىء للدور الإيراني، بعد التلطّي خلف حماسة قومية، فلسطينية، شعبية ورسمية في آخر عملياته العسكرية عام 2006؟ من يتذكر الفوران العربي تأييداً له بعدما تمكن من "الإنتصار الإلهي..."؟ وآذاننا ما زالت تطنّ بأهازيج الإستشهاد والبطولات؟ الآن لم يعد لكل هذا مكان في الإعراب: البيئة الحاضنة للحزب تقلصت إلى أضيق حدودها المذهبية، بعدما انخرط حزب الله في الحرب السورية دفاعاً، ليس عن المقامات المقدسة، إنما عن مواقع إيران المتقدمة في سوريا نفسها، بعدما أحيل حكامها ومعارضوهم إلى الأدوار المستعارة. هذه العلنية الجديدة المؤكِّدة على القيادة الإيرانية للمعارك مع اسرائيل، هي نتيجة إفراغ الساحة السورية من الأدوار الأصلية. ما صدر، بعد عملية الجولان الإسرائيلية، من تعليق خجول لبشار الأسد إلى صحيفة أجنبية، ومن صمت معارضيه، حول العملية العسكرية ضد القافلة الإيرانية في الجولان، يؤكد على هذا الغياب، ويطرح التساؤلات عن أسبابه: هل يسكت السوريون عن قيادة إيران لعلاقتهم باسرائيل، أو لحربهم معها، لأنهم عاجزون عن النهوض بهذه العلاقة، هم أصحاب الأرض الأصليين؟ عاجزون لأن الإيراني استولى على القرار السوري؟ أم لأن قتال النظام ضد أهله، وردّ اولئك الاهل بالوحش الجهادي يحرم الاثنين من النظر إلى أبعد من معركتهما المباشرة؟ في كل الأحوال، سوريا غائبة تماماً عن الخطة الإيرانية الطامحة إلى إحياء جبهة الجولان الهادئة بعد خمسين عاماً.

لعلها بذلك، تربح حصاناً، أو قلعة، أو فيلاً في رقعة الشطرنج الإقليمية التي تخوضها دفاعا عن مصالحها ومجالها الحيوي الذي اكتسبته بفضل الإقتتال الأهلي في سوريا والعراق ولبنان.

تردّد كثيرا وصفان على ألسنة  جماهير الحزب وكتَبته: من ان "حزب الله" أثبت، من خلال العملية الأخيرة عن "ذكاء" و"شجاعة". لماذا؟ لأنه عرف كيف يردّ الضربة بضربة، في عملية مباغتة حسبَها جيدا، لن تفضي الى انتصار تاريخي استراتيجي آخر، أي الى خراب وموت ودمار. لكن هاتين الشجاعة والذكاء هما أصلا حسابات إيرانية: مفاوضاتها مع أميركا ("الشيطان الأكبر سابقا"، الذي "انكسر مشروعه في عملية شبعا الاخيرة"..) حول النووي، هي عبارة عن رقصة تانغو، تشد خطوة متقدمة واخرى عكسية، لتكون نتيجتها على قدر انتظاراتها الساخنة، الإقتصادية خصوصا. واحدة من هذه الخطوات الدقيقة الذكية هي القرار الذي بات بين يديها في سوريا ولبنان، وضد أخطر منافسيها على قلب أميركا في المنطقة، أي اسرائيل. العالم كله بات يدرك ذلك، لا يحتاج إلى تقارير سرية أو "مصادر موثوقة".

والمشكلة الآن، بعدما تكرس هذا الدور، وقد بات يؤقت حياتنا أو موتنا، خرابنا أو عمارنا. وخلفه جماهير ومنْتفعون ومتعصبون أُفرغت عقولهم إلى حدّ انهم لا يرون في هذا الدور تبعية، بل عزّة ورصاص؛ ولا ينظرون إلى إيران كإمبريالية، لا تختلف بشيء عن الإمبرياليات الاخرى سوى بشرقيتها واسلاميتها. وهذه الغفلة هي من علامات انهيار العالم العربي.