شكلت الأحداث في منطقة عين العرب (كوباني) خطراً على كل من الأتراك والأكراد في تركيا وسوريا، كما طرحت تحديات في كيفية التعامل مع نتائجها، لا سيما في حال سقطت عين العرب بالكامل.
المدينة في المنطق العسكري ساقطة لا محالة، حتى لو أبدى المقاتلون الأكراد بطولات أسطورية في الدفاع عنها، فـ"داعش" بات في داخلها، وكل مقاتل كردي يسقط لا بديل له، بينما كل مقاتل من "داعش" له ألف بديل. والمدينة محاصرة من التنظيم من جهاتها الثلاث الجنوبية والغربية والشرقية، وهي محاصرة من الجيش التركي الذي يمنع وصول أي مساعدات من أي نوع، خصوصاً تلك العسكرية والبشرية إليها، وإذا كان من فرصة لمنع سقوط عين العرب، فسيكون ذلك بقرار سياسي من أكثر من جهة تضغط على تركيا لأسباب مختلفة.
لكن التحديات التي يطرحها سقوط عين العرب امام الطرفين التركي والكردي في تركيا كثيرة. فقد حذر زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان من أن سقوط عين العرب يعني نهاية ما يسمى عملية الحل، أي المفاوضات مع الدولة التركية.
لكن أوجلان نفسه لعب دوراً في تهدئة الاحتجاجات في جنوب شرق تركيا، بعد تراسل عبر الـ"واتس أب" مع صلاح الدين ديميرطاش رئيس "حزب الشعب الديموقراطي" الكردي. وأيضاً، فإن جميل باييك القائد الكردي البارز، أعلن عودة المقاتلين الأكراد إلى تركيا من شمال العراق، استعداداً لمواجهة محتملة مع الجيش التركي.
هذا التضارب في النظرة يعكس ضيق الخيارات أمام "الكردستاني" في التعامل مع نتائج الحرب في عين العرب، في حال سقوطها، فسقوط المدينة سيترك لا شك أثراً نفسياً بالغ السوء لدى الأكراد، وسيزيد الحقد الكردي على الدولة التركية اكثر من أي وقت مضى، لا سيما أن رسالة إسقاط عين العرب تهدف أيضاً إلى إفهام الأكراد في تركيا أن عليهم التخلي عن بعض المطالب، ومنها الحكم الذاتي، وإلا فإن مصيرهم لن يكون أفضل من عين العرب.
غير أن الخيار العسكري قد لا يكون الأكثر جدوى بالضرورة، لأن هذا يقتضي توزيع جهد المقاتلين على أكثر من جبهة في شمال العراق وفي سوريا وضد "داعش" وفي الداخل التركي، وهذا لا شك يضعف حصد نتائج مرجوة من العمل العسكري. كما ان مثل هذا الخيار لن يحظى بدعم من اقليم كردستان العراق حيث لا يزال رئيس الإقليم مسعود البرزاني يتخذ مواقف سلبية من اوجلان وحزبه، برغم الدور البارز لمقاتلي أوجلان ضد "داعش" دفاعاً عن اربيل ومناطق أخرى في شمال العراق.
ثم انه لا تزال هناك قناعة لدى اوجلان من أنه اذا كان من طرف داخلي في تركيا يمكن ان يقدم شيئا للأكراد فهو "حزب العدالة والتنمية"، برغم المماطلة والمراوغة وعدم الوفاء بالوعود من جانب أردوغان على امتداد السنوات الماضية.
ومع ان هذه القناعة صحيحة نظرياً، إلا انها خاطئة من خلال التجربة حيث أثبت "حزب العدالة والتنمية" أنه الأكثر رياء وخداعاً في التعامل مع المسألة الكردية. وعلى ما يبدو، فإن الظروف والضغوط التي يعاني منها أوجلان في السجن، وتوقه ليكون بطلاً للسلام في تركيا، يدفعانه الى أن يُغَلِّبَ الصبرَ والانتظارَ على أمل ان تنتهي العملية الى حل فعلي للمشكلة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أي خيار عسكري في ظل أوضاع إقليمية مضطربة ومتغيرة بسرعة قد تجعل من الخيار العسكري خطوة في المجهول وتضع الأكراد مجددا في خضم تجاذبات اقليمية ودولية لا تنتهي. من هنا نفهم حوار ديميرطاش مع صحيفة "ميللييت" أمس، عندما أبقى باب استئناف المفاوضات مع الدولة قائماً.
وقال إن "أحداث عين العرب عمقت انعدام الثقة بين الأكراد والدولة وعقّدت اعادة استئناف المفاوضات في عملية الحل التي أصبحت أكثر صعوبة ولكنها غير مستحيلة. والمواقف السلبية لأردوغان والحكومة شكلت كسرا خطيرا لعملية الحل وفتحت أمام تخريبات كبيرة جداً".
وأضاف ديميرطاش أن "تركيز الحكومة على انني دعوت الى التظاهر غير صحيح بل هو قرار حزبنا، ولكن التأييد غير المتوقع الذي نلته في انتخابات الرئاسة يراد له ان ينكسر بتركيز الهجوم على شخصي تحديدا وتحميلي المسؤولية. هذا كله يعقد عملية الحل، لكنه، مع ذلك، لا يجعلها في وضع يستحيل معه اعادة استجماعها".
غير أن تخلي الأكراد عن انتهاج الحل العسكري لا يعني أنه غير قائم، إذ إن الكرة تقع أولا وأخيرا في الملعب التركي. فحكومة اردوغان - داود اوغلو لا يمكن لها ان تنتظر هدوءا على الجبهة الكردية في ظل استمرار هجومها الشرس على تجليات الهوية الكردية في سوريا، وفي ظل عدم استعدادها للمضي قدما في عملية الحل في الداخل.
من هنا، يحذر الكاتب في صحيفة "حرييت" طه آقيول، قائلاً إن "أحداث عين العرب زادت التوتر في الداخل التركي لكنها ليست السبب في هذا الوضع. نحن نمر بوضع حساس مفتوح على المفاجآت. لكن على الجميع أن يختاروا بين الحل على الطريقة الايرلندية أو على الطريقة اليوغوسلافية".
والحل على الطريقة اليوغوسلافية يعني صراعات دامية تنهي الموسم السياحي وتضرب المنجزات الاقتصادية وتنتهي الى تقسيم جغرافي حتمي. وهذا ما تراه صحيفة "زمان" الموالية لفتح الله غولين بقولها أمس، إن الخطأ الأكبر الذي ترتكبه تركيا هو انها وضعت في كفة واحدة تنظيم "داعش" الإرهابي مع حزبَي "العمال الكردستاني" و"الاتحاد الديموقراطي" الكردي في سوريا، وفي الوقت نفسه تعتقد أنقرة أنها تستطيع أن تجمع كل الأطراف للذهاب إلى إسقاط النظام السوري.
وتقول الصحيفة إنه "يمكن للجميع التعاون ضد داعش لكن تركيا محكومة بالاتفاق مع الأكراد، وعليها ان تقتنع انها لن تجد من يدعمها لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.على تركيا ان تشارك بفعالية في الحرب ضد داعش وان تستأنف بجدية عملية الحل مع الأكراد، وإلا فإن سياسة الترقب والانتظار لن تسفر سوى عن هزيمتها على كل الجبهات".