ذبحت «داعش» الجندي اللبناني علي السيد وأرسلت صورة رأسه مفصولاً عن جسمه. المشهد افتراضي على رغم ما يحمله من احتمالات واقعية. الخبر غير أكيد لكن الصورة وصلت، وعلينا أن نتعامل معها بصفتها واقعاً، ذاك أن الصورة أقوى من الحقيقة في زمن «داعش». فقد تم ذبح علي رمزياً، وبقي أن ننتظر الخبر. تبعات فعل الذبح تمت واكتملت. الصورة، والهلع، والصمت. الخبر لم يعد مهماً والحقيقة صارت نسبية.

 

 

ذبيحتنا الأولى في مشهد الذبح العام الذي يعصف في الإقليم. صحيح أنه جندي واحد، بينما شهد اليوم الذي سبقه ذبح مئات من الجنود السوريين في الرقة، ولكن لصورة رأس الجندي اللبناني وظيفة ينوي المجرم إيصالها لنا. فهو قال «أنتم جزء من المشهد... أنتم جزء من وليمتنا».

 

 

والحال أن لبنان انضم فعلاً إلى المشهد، وصار يشكل مع سورية والعراق مثلثاً لإراقة الرقاب. فقبل يومين من ذبح الجندي كانت «داعش» «زفت» لبنانياً نفذ عملية انتحارية في بغداد، هو الثاني في غضون شهرين، وهو كما سلفه من الضواحي الفقيرة لمدينة طرابلس. وفي هذا الوقت أيضاً التحق عشرات من اللبنانيين بصفوف «داعش»، وها هم يقاتلون الآن في جرود عرسال.

 

 

لكن الرسالة الأخيرة جاءت أوضح: رأس جندي لبناني. لا شيء أبلغ من هذه الرسالة. ولا بد أن صدمة غير مسبوقة أحدثتها الصورة. وعلي الذي ربما ما زال حياً وربما لا، تمت الاستعاضة عنه بصورته. صحيح أن لبنان شهد عنفاً أشد، وأن أجساداً فيه تحولت أشلاء، لكن صورة رأسٍ فصلته سكين عن جسم الجندي، تنقل وعي اللبنانيين بحالهم إلى مستوى لم تتمكن كل جولات العنف من إحداثه. فالصورة لا تشوبها أوهام أخرى. إنهم قتلة، ولا شيء غير ذلك. لا أوهام يمكن أن ترافق هذا القتل، ولا يطمح القتلة إلى غير صورتهم هذه.

 

 

إنه جندي واحد حتى الآن، لكن الفعلة، إذ لم تأتِ على الجنود الآخرين، إنما تم ذلك بهدف تحميل الرسالة مزيداً من السمّ البصري. يريدون للمشهد المرسل إلينا أن يكون جلياً. صورة رأس واحد تكفي. رأس واحد أوضح وأبلغ. يُفصل عن الجسم ويوضع في وسطه، وتُلتقط الصورة، وتُرسل. جملة مشهدية بسيطة وغير ملتبسة.

 

 

مَنْ هم هؤلاء القتلة؟ هل هم أولئك الذين نُشاهد صورهم على «يوتيوب» و«فايسبوك»؟ مَنْ الذي أقدم على فصل رأس جندينا عن جسمه؟ فالقاتل اختار ضحية تُضاعف الحيرة به. الجندي من بلدة فنيدق، وهو ليس شيعياً ولا مسيحياً. اختار جندياً سنياً، ليقول أن طقس الذبح يشملكم كلكم، وأن لا أبرياء بينكم. وأن الذبح تم لأننا نذبح، ولأننا نذبح فقط. لا قيمة لانقساماتكم السخيفة، ولحروبكم البطيئة. نحن «داعش» الكائن الذي خرج من تفاهتكم واستقل عن جوركم وها هو زاحف اليوم ليأكل أمه وأباه.

 

 

هل رأيتم صُوَر القتلة على «فايسبوك»؟... أولئك الرجال البدناء والملتحين وكثيفي الوجوه والملامح. علينا أن نُصدق أن ما مس هذه الكائنات، ليس أنظمةً ولا أدياناً ولا طوائف ولا سجوناً. مسهم شيء من روح وحش قديم. وهل علينا أن نُصدق أنهم ظهروا فجأة؟ لقد كانوا يحكمون الموصل منذ أكثر من سنتين، وسيطروا على الفلوجة قبل أن يسيطروا على الموصل بسنة. وفي سورية كانت فُتحت لهم السجون والحدود والمُدن منذ سنتين أيضاً. كانوا «جبهة النصرة» ثم صاروا «داعش»، وكان السكان يعاينون نموهم وينتظرون.

 

 

الوحش كان ينمو ويكبر تحت أنظار الجميع، والدهشة الكاذبة التي أصابتنا عندما وثب على بلادنا ومدننا وجنودنا، ليست سوى رياءً لطالما خبّأنا خلفه حقيقتنا. في طرابلس كان المذهولون يعاينون الفتنة في وجوه من أفقروهم ومن سلّحوهم، وفي بعلبك كان «حزب الله» يُدرك أن حربه سائرة نحو ولادة وحش خرافي.

 

 

لقد أرسلنا الجنود إلى الحدود، بعدما ألغينا الحدود. أقمنا لهم مهاجع للنوم لا للقتال. كنا، جميعنا، نعرف أن هؤلاء سيموتون هناك، وكنا أيضاً نعرف أن وحشاً وُلد، وأنه بصدد أكل جنودنا. إنهم الضحية الرمزية التي قدمناها لوحشنا. هذا الكلام لا ينطوي على استعارات لغوية. هذا ما جرى بالفعل. فلنتخيل الجندي اللبناني الذبيح، ابن بلدة فنيدق. التحق الشاب بالجيش لسبب بسيط، هو أنه فقير، ولأن لا أفق للعكاريين إلا الجيش منذ عشرات السنين. كان الوحش ينمو قرب فنيدق أيضاً، وكان مَنْ توسط لعلي لكي يدخل السلك العسكري يعرف حكاية هذا الوحش، ويعرف أيضاً أن علي سيُرسل إلى عرسال، وأن الدولة أعدت لجيشها على الحدود مهاجع للنوم لا للقتال.

 

 

أُرسل علي إلى فم الوحش تحت أنظارنا جميعاً. بعضنا توسط له لكي يُصبح جندياً ومنع عنه أي طموح آخر، وبعضنا ألغى الحدود وذهب للقتال في سورية، وبعضنا أنكر على الجيش حقه في التسلح، وبعضنا ضرب صمتاً على نمو الوحش في داخله.

 

 

استيقـــظ اللبــنانيون في ذلك الصباح على صورة رأس علي السيد، الجندي من بلدة فنيدق في عكار. كان صباحاً اختبرنا فيه نوعاً جديداً من الرسائل. كان الأمر مختلفاً عن تلك الصباحات التي شهدت اغتيالات وتفجيرات. رأس واحد كان كافياً لصمت أطول من ذلك الصمت الذي لطالما رافق تفجيرات كبرى شهدناها. لم نسمع صوت انفجار، ولم تتعطل شبكة الهاتف الخليوي، ومــشهد الذبح حصل بعيداً من منازلنا خلافاً لتفجيرات داخل أحيائنا ومنازلنا، وعلى رغم ذلك كان رأس علي الــسيد المفصول عن جـــسمه أقرب إلى وجوهنا من جثث قتلى سقطوا تحت شُرفات منازلنا. في ذلك الصباح شعر كل منا بأن رأسه انفصل عن جسمه لثوانٍ قبل أن يعيده هو بيديه هلِعاً.

 

 

ولكي لا يُصيبنا الذهول الكاذب الذي أصاب العالم بعد سقوط الموصل، حين نستيقظ في الصباح ونرى «داعش» بين ظهرانينا: علينا ألا نتفادى مواجهة أنفسنا بحقائق لم يعد إنكارها مجدياً. علينا ألاّ ننسى أن فتية لبنانيين باشروا عمليات انتحارية في العراق، وأن «حزب الله» يُقاتل في سورية وألغى الحدود، وأن دولتنا ضعيفة ومنهكة، وأننا بلا رئيس... ولا رأس.