كثيرون ممن أسهموا في بناء الصرح البديع للغة العربية، ووضعوا قواعده وشيدوا بنيانه، لم يكونوا من العرب. مفارقة فريدة من نوعها ربما في التراث الإنساني بأكمله.
 

فمن سيبويه الذي يعد كتابه دستور اللغة أول وأروع تدوين وتصنيف لقواعدها النحوية، إلى ابن جني الذي وضع نواة فقه اللغة، مروراً بالجرجاني مؤسس علم البلاغة، وصولاً للفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط، كان العديد من جهابذة العربية من أصول غير عربية تنوعت بين الفارسية والرومية وصولاً إلى بربر المغرب العربي الذي نبغ فيهم الجزولي صاحب مقدمة النحو الشهيرة. وهذا التنوع هو من سمات الازدهار الثقافي الذي ميز هذه الفترة، والاحتفاء بعلماء من أصول غير عربية ليس فيه انتقاص من مكانة العرب كعلماء، فعلى عكس ذلك، هو تأكيد على انفتاح مناخ البحث والعلوم عند العرب.

سيبويه: دستور العربية

هو إمام النحاة وأول من بسط علم النحو، وصاحب مؤلف "الكتاب" الذي يعد حجة اللغة العربية ودستورها، وأول كتاب منهجي ينسق ويدون قواعد العربية. إنه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب بـ"سيبويه" (765–796م)، وهو من أسرة فارسية، ولد بقرية البيضاء بشيراز ورحلت أسرته إلى البصرة حيث نشأ وتعلم بها. واتجه في البداية إلى دراسة الفقه والحديث، ثم تحوّل لدراسة النحو على يد الخليل بن أحمد.

سمي بسيبويه، الذي يعني بالفارسية رائحة التفاح لحمرة وجنتيه وجماله، وقد توفي شاباً في شيراز بعد أن رحل إليها حزيناً عقب مناظرته الشهيرة مع الكسائي في بغداد.

يقع كتاب سيبويه الشهير في جزأين: الجزء الأول موضوعه مباحث النحو، والجزء الثاني يتناول الممنوع من الصرف والنسب والإضافة والتصغير وكل ما يتعلق بعلم الصرف.

واشتمل الكتاب، الذي قيل عنه إنه لم يصنع قبله ولا بعده مثله في النحو، كل ما يتعلق بالمجاز والمعاني وضرورات الشعر وتعريب اللغة الأعجمية ومباحث الأصوات العربية.

ابن جني: فقيه اللغة

يعد أعظم العلماء الذين قدمـوا نموذجاً مشرقاً لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي، وقدم دراسات كانت ولا تزال لها فاعليتها في الثقافة اللغوية، والنشاط الفكري، وبحث مسألة نشأة اللغة، وأوضح أن اللغة أكثرها مجاز صار في حكم الحقيقة، وتحدث عن لغات العرب وغيرهم، وتبين مؤلفاته العظيمة نبوغه الفذّ، مثل: الخصائص، وسر صناعة الإعراب، والمنصف في شرح تصريف أبي عثمان المازني.

إنه أبو الفتح، عثمان بن جِنّي الموصلي النحوي اللغوي (941–1002م)، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصاحب التصانيف الفائقة المتداولة في اللغة. أبوه (جني) كان عبداً روميّاً مملوكاً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، ولم يُعرف عنه شيء قبل مجيئه الموصل.

وبحث ابن جني في كتابه "الخصائص"، قضايا كثيرة حول أصل الألفاظ واستعمالاتها المختلفة، ممهداً بذلك لعلم "فقه اللغة".

وأثبت فقيه العربية الكثير من النظريات اللغوية، منها ان "أصل اللغات هو الأصوات المسموعة"، و"نظرية تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، و"نظرية الاشتقاق الأكبر".

أبوعلي الفارسي: إيضاح القواعد

يعتبر من أفذاذ علماء العربيَّة في القرن الرابع الهجري، وأنْحى مَن جاء بعد سيبويه، وذلك لشخصيته المستقلَّة، المتفرِّدة في تقديم آراء اختلفت عن السابقين، وأثَّرت في اللاحقين.

إنه "أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان"، المعروف بـ"أبو علي الفارسي"، (900–987م). ولد في بلدة فسا، بإيران حاليا، لأبٍ فارسي، وأم عربية.

رحل إلى بغداد وتجوّل في كثير من البلدان، وأقام بحلب، ثمّ عاد إلى فارس، فصحب ملك شيراز عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده، فعلمه النحو، وصنف له كتاب (الإيضاح) في قواعد العربية.

ترك أبو علي الفارسي تراثاً حافلاً، من الكتب منها "التذكرة" في علوم العربية (عشرون مجلداً)، "تعاليق سيبويه" (جزآن)، “الشعر"، "الحجة " (في عِلل القراءات)، "جواهر النحو"، "الإغفال في ما أغفله الزجاج من المعاني"، "المقصور والممدود"، "العوامل" (في النحو).

أحمد ابن فارس: مقاييس اللغة

هو أحمد بن فارس بن زكريا، أبو الحسين الرَّازيُّ القزويني، المعروف بالرازي المالكي اللغوي (941–1004م)، أصله فارسي من قزوين، وأقام مدة في همذان، ثم انتقل إلى الري فتوفي فيها، وإليها نسبته.

من أهم مؤلفاته كتاب المجمل، ومتخير الألفاظ، وفقه اللغة، وغريب إعراب القرآن، وتفسير أسماء النبي، ومقدمة نحو، ودارات العرب، ومقاييس اللغة. صنف ابن فارس كتباً كثيرة في اللغة والفقه والسيرة ولكن الغالب عليها اللغة.

ومن بين كتب المعاجم التي وضعت في اللغة، انفرد ابن فارس في معجميه "المجمل" و"المقاييس" بطريقة خاصة تنسب إليه وحده، فإضافة إلى اتباعه الابجدية العادية انفرد بفكرتي الأصول والمقاييس لجميع مفردات اللغة.

تميز ابن فارس بغزارة المادة اللغوية التي ظهرت من خلال تناوله لبعض المسائل اللغوية، وجاءت دراسته شاملة لمستويات اللغة الأربعة: المستوى الصوتي، والصرفي، والنحوي، والدلالي، فضلاً عن الظواهر اللغوية التي تناولها كالنحت والأضداد والترادف والإتباع وغيرها.

الزمخشري: العربية سبيل الريادة

هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري (1074–1143م)، ويلقب بالإمام الكبير في التفسير، والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، اطلق عليه لقب "جار الله الزمخشري"، لأنه سافر إلى مكة وسكن بها زماناً.

ولد من أصل فارسي ببلدة زمخشر بخوارزم بآسيا الوسطى، أوزبكستان حالياً، وكانت المنطقة التي نشأ بها متعددة اللغات، فيما كانت العربية لغة الصفوة من العلماء، واللغة المنشودة لكل من أراد العلم وفنونه ومن تطلع إلى امتزاج كيانه بالإسلام.

فكانت اللغة العربية هي سبيل الزمخشري إلى كل هذه العلوم التي برع فيها ووضع بها مؤلفاته العظيمة، فانصب تفسيره الشهير "الكشاف" على بلاغة القرآن وتراكيبه اللغوية.

ويعد معجمه "أساس البلاغة" من أهم كتبه، ومن أعظم قواميس اللغة العربية. ويحتوي على التعابير البليغة عند العرب، والمجازات اللغوية والمزايا الأدبية، وبين فيه الحقيقة من المجاز في الألفاظ المستعملة إفراداً وتركيباً.

الجرجاني: تأسيس علم البلاغة

يعد مؤسس علم البلاغة، ويعتبر كتاباه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" من أهم المؤلفات العربية في هذا المجال.
استقطبت كتاباته ونظرياته في البلاغة وفقه اللغة اهتمام عدد كبير من الباحثين والدراسين، نظراً لتركيزه كثيراً على منطق اللغة أو عقلنتها وميله الواضح لأولوية المعنى على اللفظ.
إنه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (1009–1078م)، الذي نشأ من أصل فارسي في أسرة رقيقة الحال بمدينة جرجان بإيران حالياً.
يعتبر كثير من البلاغيين أن كتابه "دلائل الإعجاز" هو الكتاب الأول في بيان الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وتعد نظرية النظم أهم نظرياته اللغوية وتتلخص في أن الكلمات المفردة لا معنى لها إن لم تنتظم في سياق تركيبي، وهو النحو، وأن معنى الكلمة تكتسبه خلال السياق التركيبي هي التي يقصدها المتحدث، وتختلف تلك المعاني وفقاً للسياق الذي تنتظم فيه الكلمة.
الفيروز آبادي: القاموس المحيط

صاحب القاموس المحيط، هو محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر، أبو طاهر، مجد الدين الشيرازي الفيروزآبادي، (1329–1415 م)، الذي يعد من أئمة اللغة والادب، ولد ببلدة بكارزين بشيراز في إيران حالياً، واشتهر بالفيروز آبادي نسبة إلى “فيروز آباد” وهي مدينة جنوب شيراز كان منها أبوه وجده.
ذاعت شهرة معجمه "القاموس المحيط" حتى كادت كلمة "القاموس" التي تعني معظم ماء البحر، تحل محل "المعجم"، إذ حسب كثير من الناس أنهما لفظان مترادفان، وذلك لكثرة تداول معجمه وانتشاره.
عرف الفيروز آبادي بعلمه وثقافته الواسعة، وكان متمكناً من اللغتين العربية والفارسية، وصب اهتمامه على دراسة اللغة وعلومها، واشتهر بحبه الشديد لاقتناء الكتب وقراءتها.
وترك صاحب القاموس المحيط نحو 60 كتاباً في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة والنحو.
"الجنسية" العربية

يقول الدكتور خالد فهمي، أستاذ اللغويات في كلية الآداب جامعة المنوفية والخبير في مجمع اللغة العربية، لرصيف22، إن المفارقة تكمن في أن الكثير من أئمة العربية ليسوا عرباً "بمعاييرنا اليوم". وأوضح فهمي أن علماء النحو واللغة كسيبويه وابن جني وغيرهما تفوقوا بقدرتهم على الكلام والفهم والإنجاز باللسان العربي، وجاء تميزهم في العلم باستثمار الميراث الحضاري المعرفي الذي ورثوه وأضافوا له وطوّروه.
أعاجم العباسيين

وبين الدكتور محروس بريك، الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية بجامعة قطر، أن نهضة العلوم العربية بدأت مع رواد عرب، كان من أوائلهم الخليل بن أحمد، المنشئ لعلم النحو، وصاحب أول معجم في العربية، وواضع علم العَروض، وأضاف أن عالماً آخر من علماء العربية الكبار هو يونس بن حبيب المتوفى 798م، عاصره.
وتابع: كان أشهر رواة الشعر من العرب الأصمعي، كل أولئك النَّفَر من العلماء العرب برعوا تحت ظل الدولة العباسية، وقد طلب العلم على أولئك الجيل من الرواد جيل آخر كثير منه من غير العرب، مثل سيبويه وابن جني وغيرهما، وبعض هؤلاء من غير العرب وفد إلى حواضر الدولة العباسية (بغداد والكوفة والبصرة) وبعضهم وُلِد ونشأ وترعرع بين العرب إلا أن أصوله غير عربية.
وأرجع بريك السبب في بزوغ نجم هؤلاء العلماء إلى أن الدولة العباسية، بازدهارها وتوسعها، جذبت علماء من جميع أصقاع العالم، وترعرع على أراضيها أبناء الفرس والأعاجم وتلقوا العلم في شتى المعارف. وأضاف لرصيف22: "كما طلب كثير من الفرس العلم لأنه كان الباب الكبير للترقي في السلم الاجتماعي بالدولة العباسية، وود كثير منهم أن يُسهم في بناء الدولة الإسلامية تحت راية العباسيين، وبخاصة أن تلك العلوم التي برعوا فيها كانت لها علاقة بالقرآن (كتاب العربية الأول)، والمؤكد أن فضل هؤلاء على العربية وأهلها لا ينكره إلا جاحد".
وهذا ليس إلا مثال هام عن الغنى الحضاري للخلافة الإسلامية، الذي فتح المجال لكل الباحثين والعلماء بدون اعتبار لعرق أو أصل، وهذه سمة نراها اليوم في أهم مراكز الأبحاث في العالم التي تسعى لخلق مناخ يستقطب كل المبدعين دون تمييز. وهنا لابد أن نذكر أن اللغة العربية وقتها كانت لغة الثقافة والتواصل المشترك، كما هو حال اللغة الإنكليزية اليوم.