عنصر آخر يجعل من الانتخابات النيابية غير ذات بال في حسابات قوى السلطة اللبنانية يتمثل في الغضب الشعبي تجاه سياساتها.
 

فيما تبدو القوى السياسية اللبنانية المشاركة في السلطة عاجزة عن إجراء الانتخابات النيابية بعد نحو ثماني سنوات على آخر انتخابات للبرلمان وبعد تمديدين للمجلس النيابي، تتجه اليوم إلى تمديد جديد وثالث للمجلس تحت عنوان تأجيل تقني أي من مايو المقبل حتى شهر أكتوبر من العام الجاري في الحدّ الأدنى. عنوان الخلاف الظاهر هو قانون الانتخاب وتحديدا نظام الانتخاب بين اعتماد النسبي أو الأكثري أو المختلط بين النظامين، فيما المسكوت عنه هو عدم استعداد القوى السياسية أو معظمها لخوض العملية الانتخابية في ظل قناعة لدى جميع من هم في السلطة بأنّ سقف المعركة الانتخابية يبقى هو عدم تغيير المعادلة القائمة في السلطة التي خلص إليها انتخاب العماد ميشال عون، أي تحييد الخلاف الإقليمي المتصل بسلاح حزب الله ودوره في الأزمة السورية والانكباب على معالجة أوضاع الداخل تلك المتصلة بتقاسم المنافع من جهة أو معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية مع الحرص على عدم الانجرار إلى أزمة داخلية.

من هنا قصارى ما تسعى إليه الطبقة الحاكمة هو الاستقرار على معادلة السلطة القائمة، كل في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع السورية، فيما يشكل الدخول في عملية انتخابية قرر أطراف السلطة مسبقا أن يكون دورها إعادة إنتاج المجلس النيابي نفسه، إرباكا ويفتح مجالا لمفاجآت غير محبذة على مستوى نتائج الانتخابات، والأهم من ذلك عدم الدخول في جدل سياسي لكل طرف مع قواعده الانتخابية، وعدم التورط في الانفاق الانتخابي الذي درجت عليه القوى السياسية في المراحل السابقة، وليس خافيا أنّ لبنان اليوم يعاني من أزمة مالية ولا سيما القوى السياسية التي حكمت لبنان بقوة المذهبية والطائفية من جهة، وبقوة الدعم المالي الخارجي الذي تفتقده أطراف السلطة اليوم من جهة ثانية. إيران تراجعت مواردها المالية وخفضت من موازنات الدعم المالي والاجتماعي ليستأثر الإنفاق العسكري في سوريا بمعظم الإنفاق الذي قدمته خلال عقد من الزمن، فيما المملكة العربية السعودية وبعد وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز أعادت النظر بكل موارد الدعم للبنان سواء تجاه الدولة اللبنانية أو دعمها لبعض القوى السياسية، ولا سيما تيار المستقبل الذي يرأسه رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري، الذي يعاني من أزمة مالية غير مسبوقة منذ تأسيسه.

الانتخابات النيابية لا تبدو أولوية في سلم السلطة، وإن كانت مطلبا لدى العديد من قوى المجتمع غير الممثلة في البرلمان، لكن عنصرا آخر يجعل من الانتخابات النيابية غير ذات بال في حسابات قوى السلطة يتمثل في الغضب الشعبي تجاه سياسات السلطة، حيث تشهد بيروت هذه الأيام تحركات شعبية واسعة ضد سياسة السلطة التي عمدت إلى فرض ضرائب جديـدة على المواطنين استهدفت الفئات الوسطى والفقيرة في المجتمع بالدرجة الأولى، وهذا ما أحدث ردة فعل اتسمت بطابع لبناني عابر للطوائف والمذاهب، حيث شهدت العاصمة بيروت قبل يومين تظاهرة ضخمة ضد فرض الضرائب الجديدة وضد الفساد والهدر الذي يكاد يصبح تقليدا في إدارة المال العام والمرافق العامة والإدارة.

هذه التحركات الشعبية التي تتصدى لكل السلطة، فتحت بشكل صارخ كل ملفات الفساد التي يعاني منها لبنان على مصاريعها، إذ لا يخفى على اللبنانيين أنّ ثمة ملفات تتصل بالتهرب الجمركي وبالتهريب عبر الحدود غير المراقبة، وبالتلزيمات (إسناد المشاريع) وفي العديد من أبواب الإنفاق، لا سيما في قطاع الكهرباء وهي ليست محل جدال لجهة الهدر والفساد المستمر فيه بأرقام خيالية وبغطاء سياسي ومن دون أيّ محاسبة،

وسط هذا الضغط الشعبي، المترافق مع أزمة مالية واقتصادية تثقل كاهل الخزينة العامة والاقتصاد جعلت لبنان في مواجهة استحقاقات تبدو السلطة عاجزة عن مواجهتها، ذلك أنّه لطالما كانت موارد الدعم المالي الخارجي الرسمي وغير الرسمي المنظور وغير المنظور تساهم في الحدّ من آثار الهدر والفساد، فيما يشهد لبنان اليوم حصارا ماليا غير معلن، يتمثل بالدرجة الأولى بانحسار المساعدات العربية ولا سيما السعودية منها، والإجراءات الرقابية التي تقوم بها واشنطن على حركة الأموال وعمليات تبييض الأموال، التي كانت نشطة في فترات سابقة وتتهم واشنطن حزب الله بإدارة جزء منها. وفي هذا السياق كان لافتا اعتقال السلطات المغربية مطلع الشهر الجاري أحد المدرجين على اللائحة السوداء التي تصدرها الخزانة الأميركية، وهو اللبناني قاسم تاج الدين الذي تتهمه السلطات الأميركية بتمويل حزب الله، وهو معروف بأنّه من أبرز رجال الأعمال اللبنانيين الشيعة العاملين بين أفريقيا ولبنان، وهو من المعروفين بصلتهم بحزب الله لا سيما على صعيد مشاريع إسكانية ملتبسة أنجزها في مناطق لبنانية مختلفة ولأسباب سياسية وديمغرافية.

وإذا أضفنا إعادة تنشيط تقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن المتصلة بالقرارين الدوليين 1559 و1701 المتصلين بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية وتثبيت سلطة الدولة وسيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، إلى الرسائل الدولية التي تلمح إلى تخفيض عدد قوات الأمم المتحدة المنتشرة في جنوب لبنان إذا لم يلتزم لبنان بالقرارات الدولية، فإنّ ما يمكن ملاحظته هو التحذيرات المضمرة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة للدولة اللبنانية، تجاه ضرورة أن تأخذ مسؤولياتها ولا سيما في إشارته إلى “إعلان بعبدا”، وهو الإعلان الذي التزمت من خلاله القوى السياسية اللبنانية داخل السلطة بسياسة النأي بالنفس تجاه الأزمة السورية، وتمّ إرساله إلى الأمم المتحدة في العام 2013، فيما لاقت مواقف رئيس الجمهورية ميشال عون المؤيدة لسلاح حزب الله اعتراضات أوروبية وأميركية، إلى جانب ما أكدته مصادر دبلوماسية سعودية في بيروت لـ”العرب” بأنّ المملكة فرملت من اندفاعتها الإيجابية تجاه لبنان بسبب هذا الموقف، وهي جمدت العديد من المشاريع التي كان تمّ رفع الفيتو عنها لتنفيذها في لبنان بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيسا، وإثر قيامه بزيارة المملكة في أوّل زيارة خارجية له.

المشهد اللبناني اليوم ينذر بالمزيد من الأوضاع غير المريحة لا سياسيا ولا اقتصاديا، ذلك أنّ المؤشرات الخارجية ولا سيما في ظلّ انطلاقة الإدارة الأميركية الجديدة، تدفع نحو هذا الاستنتاج، فيما الحاضنة العربية التي افتقدها لبنان لصالح السطوة الإيرانية عليه تنذر بقرارات جديدة سوف تصدر عن القمة العربية المقرر عقدها في الأردن، من زاوية مواجهة النفوذ الإيراني، ولبنان لن يكون بمنأى عنها. لذا سيوفر هذا التوجه الإقليمي والدولي المزيد من الضغوط على لبنان، ما يدفعه إلى أن يكون أمام خيار الانتقال إلى تبني رؤية لمعالجة مسألة سلاح حزب الله بحيث يتم إيجاد صيغة تجعله تحت سلطة الدولة بعد انسحاب حزب الله من سوريا، أو تعنت حزب الله واستمراره في المواجهة مع توقع المزيد من تفاقم الأزمات اللبنانية الداخلية ولا سيما الوضع الاقتصادي والاجتماعي، والمزيد من العجز في الموازنة العامة وتفاقم أزمة الدين.

هذا السلاح الاقتصادي والمالي الذي يهدد لبنان ناتج بمجمله عن سوء الإدارة الداخلية وغياب أيّ سياسات تنموية وإصلاحية، فاقمه تراجع الاهتمام العربي والدولي بلبنان على هذا الصعيد بعدما سلمت السلطة اللبنانية مصيره للوصاية الإيرانية واستسلمت لها. من هنا تصبح الانتخابات النيابية تفصيلا في ظلّ هذه الحسابات، ذلك أنّ الانتخابات النيابية ليست هي من يقرر المصير اللبناني، بل القوة العسكرية وحدها، إذ لم يشكل فوز معارضي حزب الله في الانتخابات النيابية السابقة أيّ تغيير في مواجهة سلطة السلاح.

حسم خيار الدولة اللبنانية والانتقال إلى سلطة واحدة في البلد بات بحسب التجارب اللبنانية المريرة، يرتبط بالخارج الذي وحده يقرر ضرورة بقاء هذا السلاح كما هو أو لا، وهو في أي قراءة سياسية بات مرتبطا بالأزمة السورية ومآلاتها النهائية. هذا لا يبدو قريبا في ما بات من الصعب أن يستمر لبنان بحال شبه طبيعية لمدد طويلة لا سيما أن المؤشرات المالية والاقتصادية لا تدفع إلى التفاؤل، فكيف إذا ترافق معها قرار عربي وأميركي بالمزيد من التضييق والحصار غير المعلن، حينها تصبح كل الخيارات مفتوحة في بلد قام دائما على توازنات إقليمية ودولية تزداد اختلالا هذه الأيام.