عشرة بالمئة من أوكسيجين رئتك المنهكة لم تكف جسدك ليعيش، ولكن كانت تكفينا نحن، ما دام ما تبقى من هواء كان يكفي دماغك كي يبقي رأسك حيا، يبثنا باخر ما توصل اليه الدين من حريّة.

عقلك يكفينا يا سيد، ولو انني في اخر لقاء معك في المستشفى قبل دخولك “العناية” احتجت يدك كي أقبلها شوقا وربما عطفا على قوي في قمة ضعفه، فضحكت أنت واشرت الى زوجتك ام حسن “انظري هذا ابن أخي السيد عبدالله”!

السيد عبدالله الأمين صديق شبابك ورفيق كهولتك الذي رثيته بكاء قبل أكثر من عامين على منبر بلدته ديركيفا، لم تجمعك به فقط العمّة السوداء، ولا غرفة سكن طلبة العلم في كلية الفقه بنجف العراق فحسب، بل جمعتكما أيضا روح حرة متحفّزة كما جمعكما اختلاف الرأي مع عقيدة واحدة قائمة على الايمان بالله وبفرادة الانسان خليفة الله على الأرض، ولطالما سمعت من كليكما ومن العم أبو علي (السيد محمد حسن الأمين)، المفكّر الوازن نفس العبارة: ” الاسلام وجد من أجل الانسان وليس العكس”.

وأشهد أن خلاف الرأي هذا كان هو فاكهة تلك السهرات الاخوانية ومتعتها، رافقناها نحن جيل الأبناء صغارا ونشأنا عليها حتى كبرنا مصاحبين آباءنا أينما حلّوا، سهرات تنتقل من صالون الى اخر من شقرا الى ديركيفا الى البازورية بمنزل السيد محمد جواد الامين،الى جبشيت ومجدل سلم حيث دارة السيد احمد شوقي الامين، ولاحقا انتقلت تلك الجلسات الى ضاحية بيروت الجنوبية مع انتقال السادة والمشايخ اليها، ولتضم أيضا صالون القاضي الشيخ علي سرور والسيد محمد علي الحسني بأوقات متفاوته.

عروض أدبية فكرية كانت تجري وسط رنين كاسات الشاي العجميّة، بعد عشاء ملكه “التمن” أي الارز المطبوخ على الطريقة العراقيه، وقد كان يحلو لنا في هذه الجلسات الممتعه بعد ان شببنا عن الطوق وكبرنا، ان نستمع الى أنواع من جدل سياسي أو فكري راق أوفقهي نحاول ان نفهمه، كي نقتنص معان جديده، أو عبارة أو جملة بل وحتى كلمة، وينتهي عادة نقاش العلماء قبل ان يطول ويداخله الملل، بحكاية طريفة من السيد هاني أو نكته من السيد عبدالله يطرب لها السيد كاظم ابراهيم وربما ببيت شعر للمرحوم الشيخ علي سويدان يهجي به احدهم بسخريته المعهودة فيثير ضحكة رنانه يطلقها المرحوم الشيخ عبدالله مديحلي او المرحوم الشيخ علي شمس الدين، ليتبعها بعد ذلك سيل من تبادل ذكريات قروية أو نجفية مصحوبة بأبيات شعر يتناوب الحاضرون على القائها ويلقي بعضها السيد هاني باللغة الفارسيه من شعر حافظ والسعدي وغيرهما شارحا معانيها البليغة بالعربية لأصدقائه المعممين ولجيل الأبناء منا نحن الحاضرين.

اليوم وبعد ان ودعنا الكثير من رواد هذه “الحلقة المخمليّة”، والدي السيد عبدالله، السيد علي بدرالدين، الشيخ يوسف فقيه،الشيخ علي شمس الدين وأخوه الشيخ نجيب ، الشيخ عبدالله مديحلي، الشيخ علي سويدان، واخرهم مولانا الحبيب السيد هاني فحص أديب هذه الحلقة وزينتها وذاكرتها التي لا تخمد، واذ نشعر اليوم باليتم أيضا، فاننا لا نسأل من الله الا العافية وطول العمر لمن ما زال بيننا منهم يكدح من فكره وعلمه وادبه.

رحمك الله يا سيدي، يا شبيه والدي خلقا وخلقة، نسيت ان أقول انني قبّلت يدك في اليوم الاخير قبل وفاتك وكنت في العناية المركزة غير واع ،نعم اختلستها قبلة، وكنت اعلم انها القبلة الأخيرة…رجائي ان توصلها لوالدي عندما تلتقيه في الملكوت الاعلى عند ربك…