في اليوم الأوّل لجلسات مناقشة الموازنة للعام الحالي، بدا النواب، وكأنهم آتون من كوكب آخر، فكتلهم المشاركة في الحكومة، غيرها في المجلس.. فهم مرّة، يبدون كخبراء في المال والاقتصاد، وتدوير المديونية، ومرة، يبحثون عن بقايا «منتخِب» يراهم عبر الشاشة الصغيرة... في حفلة مزايدات «شعبوية» كما هي مع حركة الاعتراض العسكري والمدني في الشارع..
 
كل ذلك، تحت أنظار الرئيس نبيه برّي، الذي عليه ان يُنجز المناقشات بإقرار الموازنة، وفي ذات الوقت، ينفس الاحتقان، على الرغم من تعالي صيحات قدامى المحاربين في ساحة النجمة تحذيراً من المسّ برواتب المتقاعدين..
 
وإذا كان انقلاب «القوات اللبنانية» على قرار سبق للدكتور سمير جعجع، وابلغه للرئيس سعد الحريري قبل أسابيع بأن كتلة نواب ستصوت لصالح الموازنة، من انهم في ضوء المناقشات سيمتنعون عن التصويت، مما حدا بالرئيس الحريري التمني على هؤلاء النواب ان يتكلموا بمسؤولية عن الاستقرار المالي، كاشفاً ان صندوق النقد الدولي اقترح زيادة 5000 ليرة على البنزين، ورفع الـTVA إلى 15٪، وهو لم يؤخذ به، وخاطب نواب القوات: «إذا حابين بالقوات تعملوا هالشي.. أوكي».. 
 
وكشفت جلسات اليوم من الموازنة ان الحكومة دخلت في إجازة طويلة، ضمن معادلة لا مجلس وزراء من دون مجلس عدلي، تحال إليه احداث قبرشمون.
 
إشكالية قطع الحساب
 
وكشفت المداولات التي جرت على هامش جلسات مناقشة مشروع الموازنة، عن ضغوطات سياسية متبادلة، حول مسألة تعطيل جلسات مجلس الوزراء، ولكن هذه المرة، بعنوان «اشكالية قطع الحساب»، حيث ينص الدستور على عدم جواز التصديق على الموازنة، قبل بت قطع حساب السنة التي قبلها.. والظاهر ان قصر بعبدا لم يكن بعيداً عن هذه المداولات سعياً وراء صيغة تسوية لهذه الإشكالية، بشرط يحول دون تمكين الحكومة من الاجتماع، اليوم أو غداً، أو حتى بين الجلسات الصباحية والمسائية.
 
وبدا واضحاً منذ اللحظة الأولى لانعقاد الجلسة الصباحية، وجود طرحين قيد البحث:
 
الأوّل يحمله رئيس المجلس نبيه برّي يقول بأن تجتمع الحكومة لاحالة قطع حساب العام 2017 إلى المجلس، خاصة وان ديوان المحاسبة أنهى التدقيق فيه، وهو كان أكّد في الجلسة الصباحية، بأن مجلس الوزراء سيجتمع قريباً للبت بهذه الإحالة، قبل ان يعود مساءً ويعتذر عمّا قاله في الجلسة الصباحية، مؤكداً بأنه لن تكون هناك جلسة لمجلس الوزراء قريباً وان الأمر يعود بته إلى مجلس النواب.
 
والثاني: طرحه رئيس الجمهورية ونقله إلى المجلس تكتل «لبنان القوي»، عبر وزير شؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي، ويقضي بأن يقترح رئيس الحكومة في مجلس النواب إضافة مادة في موازنة 2019 تنص على تمديد المهلة المعطاة للحكومة لتقديم قطوعات الحسابات المالية الكاملة والتي كانت سنة، 6 أشهر إضافية، بحيث يصبح بالإمكان نشر الموازنة بعد إقرار القانون.
 
وأعلن جريصاتي ان الرئيس برّي تسلم صيغة الحل هذه، وهو ينظر فيها، مشيراً إلى ان هذا الحل يغني عن انعقاد مجلس الوزراء في اليومين المقبلين ويسمح بنشر موازنة 2019.
 
وفيما لوحظ ان الرئيس الحريري لم يعط أي كلمة في شأن هذه الصيغة، ولا حتى في شأن عقد جلسة لمجلس الوزراء اليوم أو غداً، بحسب ما طلب منه ذلك الرئيس برّي، كشفت معلومات لـ«اللواء» ان المسألة أبعد من إشكالية قطع الحساب، إلى المسألة المرتبطة بتداعيات حادثة قبرشمون في الجبل، حيث بدا واضحاً ان مهمة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم تعثرت بعض الشيء بفعل تشبث موقف حزبي «التقدمي الاشتراكي» و«الديموقراطي اللبناني» من تسليم المطلوبين والشهود والشروط والشروط المضادة منهما.. علماً ان مسعى إبراهيم يقضي بتسليم المطلوبين والتحقيق معهم على ان يتوج الحل بلقاء مصالحة يرعاه رئيس الجمهورية في قصر بعبدا.
 
وتبعاً لهذا التعثر في مسألة معالجة تداعيات حادثة الجبل، فإن أي انفراج على صعيد حلحلة التعقيدات التي تحيط بانعقاد جلسات مجلس الوزراء، لا يبدو متاحاً، أقله في هذين اليومين، إذ بدا من خلال المشاورات الجانبية ان الرئيس الحريري ليس في وارد الدعوة إلى جلسة للحكومة، لكن منطلقات التحفظ على صيغة حل إشكالية قطع الحساب تختلف بين قصر بعبدا والسراي. إذ ان بعبدا التي كات وراء طرح صيغة الحل، لا تريد للحكومة ان تحيل إلى المجلس قطع حساب عن العام 2017 رغم انه جاهز لدى ديوان المحاسبة. وبالتالي لا يعود هناك من حديث عن قطوعات الحسابات القديمة التي تعود إلى العام 1993 ولغاية 2017، والتي أعاد إلى اثارتها مجددا نواب «حزب الله» في سياق مناقشتهم لمشروع الموازنة، معتبرين ان كل الأموال التي صرفت في تلك الفترة منهوبة أو مسروقة.
 
ومن هنا يُمكن فهم التموضع السياسي إزاء صيغة الحل الذي طرحته بعبدا، حيث لا يبدو ان الرئيس الحريري متحمساً لها، ويفضل السير باقتراح الرئيس برّي، لكنه في الوقت نفسه، لا يرغب بانعقاد جلسة للحكومة خوفاً من تطييرها مجدداً، تحت وطأة ضغط المطالبة بإحالة حادثة الجبل إلى المجلس العدلي.
 
كما انه يُمكن فهم سر رفض كتلتي «القوات اللبنانية» و«اللقاء الديموقراطي» للتوصية المقترحة بالتمديد 6 أشهر للحكومة للبت في قطع الحساب، باعتبارها مخالفة دستورية وهروباً من انعقاد مجلس الوزراء، على حدّ تعبير النائبين جورج عدوان وهادي أبو الحسن، الذي ذهب إلى أبعد قائلاً: ان هذا الأمر يؤدي إلى التعطيل. فهل عدنا إلى التعطيل؟
 
إلى ذلك، اشارت مصادر مقربة من قصر بعبدا إلى ان ما يهم الرئيس ميشال عون هو إقرار موازنة العام 2019 في مجلس النواب والانصراف إلى ايلاء الوضع الاقتصادي الأهمية اللازمة، مبدياً أمله بصدور موازنة العام 2020 في موعدها الدستوري.
 
وأشارت المصادر إلى ان الرئيس عون متفق مع الرئيس الحريري على تحصين الوضع الاقتصادي، وبذل كل جهد ممكن لهذه الغاية.
 
استياء الحريري
 
لكن اللافت، في سياق الجلسة المسائية، كان ردّ الرئيس الحريري على ما تضمنته مداخلة نائب «القوات اللبنانية» جورج عدوان، والذي أعلن وقبله النائب ستريدا جعجع الامتناع عن التصويت لصالح الموازنة، وبدا الرئيس الحريري غاضباً، إذ خاطب عدوان ومن خلاله النواب قائلاً: «هشموا فيي قد ما فيكم، وهاجموا الحكومة قد ما تستطيعون، لكنكم عندما تتحدثون عن الاستقرار المالي تحدثوا بمسؤولية من دون المس بالاستقرار المالي أو النقدي، كاشفاً بأن صندوق النقد الدولي كان يعارض الاكتتاب بألف مليار ليرة بفائدة 1 في المائة من المصارف لتغطية العجز في الموازنة، وانه طالب بتحرير سعر صرف الليرة، وزيادة خمسة آلاف ليرة على صفيحة البنزين، ورفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 15 في المائة، وهو ما رفضته الحكومة واخذت بما فيه مصلحة لبنان»، موكداص ان الحكومة تحاول ان تحل مشكلة عمرها 15 سنة ومقاربة الأمور بشكل إيجابي لإيجاد الحلول.
 
وقد حاول عدوان الرد، غير ان الرئيس برّي تدخل للمحافظة على هذه الجلسة، وبعد دقائق جلس عدوان إلى جانب الحريري وتبادلا أطراف الحديث.
 
الجلسة: هدوء ما قبل العاصفة
 
وعدا عن هذه «الانتفاضة» للرئيس الحريري، بقيت الجلسة بشقيها الصباحي والمسائي هادئة، من دون ان تهددها سجالات على غرار ما كان يحصل في السابق، لكن الأجواء في الخارج كانت صاخبة نتيجة التحركات الاحتجاجية التي نفذها العسكريون المتقاعدون وقدامى المحاربين في ساحة الشهداء، رفضاً للمس بحوقهم، ما دفع عناصر قوة الأمن إلى إعلان منطقة ساحة النجمة منطقة معزولة، واحيطت باجراءات أمنية مشددة، تسببت بزحمة سير خانقة في شوارع العاصمة.
 
وفيما نصب العسكريون خيمة في وسط الساحة، في إشارة إلى استمرار تحركهم، أعلن الحراك ان 3 عسكريين بدأوا منذ البارحة اضراباً مفتوحاً عن الطعام، وان خطوتهم هذه ليست دفاعاً عن حقوقهم وإنما عن كرامة كل العسكريين، إلى حين سحب البند من الموازنة والمتعلق بحقوقهم.
 
ولاحقاً، سجلت مجموعة تحركات شعبية امام جامع محمّد الأمين في ساحة الشهداء، احتجاجاً على ما وصفوه «الموازنة التقشفية والضرائب المقترحة والسياسات الاقتصادية ودفاعاً عن السلم الأهلي والكرامة الإنسانية ولقمة العيش وحق السكن والاجور».
 
وأعلنت هذه المجموعات التي كان يقودها الحزب الشيوعي وحراك الأساتذة المتعاقدين استمرار حراكها يومياً تزامناً مع جلسات مجلس النواب عند الخامس عصراً.
 
كما أعلنت رابطة موظفي الإدارة العامة الإضراب العام في الإدارات كافة، بدءاً من صباح اليوم.
 
اما بالنسبة لوقائع الجلسة نفسها، فلم يكن فيها ما يلفت الانتباه سوى إعلان «القوات اللبنانية» الامتناع عن التصويت للموازنة، بالرغم من تأييدها لبعض البنود، وكذلك فعل عضو «التكتل الوطني» النائب فريد هيكل الخازن، من دون ان يعرف ما إذا كان التكتل الذي يضم 7 نواب مع تيار «المردة» سيمتنع بدوره، وفيما عدا ذلك، لوحظ غياب المناكفات السياسية التي حلت محلها اجواء الرتابة، حيث بقيت مداخلات 16 نائبا تناوبوا على الكلام في الفترتين الصباحية والمسائية، تحت سقف الايقاع المضبوط الذي حرص الرئيس برّي على المحافظة عليه، فيما يبقى ضمن لائحة طالبين الكلام أقل من 40 نائباً، الأمر الذي سيدفع رئيس المجلس إلى ان اختصار عدد المتكلمين أو اختصار المدة الزمنية لكل نائب، بهدف إفساح المجال، لأن تكون جلسة الغد الخميس مخصصة فقط  للتصويت على بنود الموازنة البالغة 96 بندا، وتقع في 1500 صفحة، حيث يفترض ان تظهر الخلافات النيابية، والكباش النيابي- الحكومي لا سيما وان العديد من البنود العالقة التي لم تجد اللجنة النيابة معالجة لها، ما تزال موضع خلاف، وفي الصدارة موضوع فرض رسم 2 بالمائة على البضائع المستوردة، والضرائب على المعاشات التقاعدية للعسكريين وغيرهم من الموظفين.