أراد الرئيس سعد الحريري استعراض قوته، فإذا بها لا تصيب إلا فريقه السياسي والأمني والقضائي. استخدم قوته الضاربة، فرع المعلومات، وتحديداً، قوة الفرع الضاربة، لتنفيذ مآرب سياسية بالغة الضيق، فارتد الأمر ندباً في وجه تيار المستقبل وحلفائه. كان يمكن لما «ارتكبه» الوزير السابق وئام وهاب أن ينتهي بمثوله أمام النيابة العامة التمييزية اليوم، ليخرج بعدها رئيس حزب التوحيد العربي مدلياً باعتذار، نافياً أن تكون الإهانات التي تفوّه بها قبل أيام موجهة إلى الرئيس رفيق الحريري أو لابنه الرئيس سعد الحريري. كان وهاب سيبدو متراجعاً خشية الملاحقة القضائية. لكن الرئيس المكلّف بتأليف الحكومة قرر تفويت هذه الفرصة. قرأ الوقائع السياسية في لبنان والإقليم خلافاً لأي منطق. لم ينتبه إلى أن رفع الغطاء عن رفعت عيد وشاكر برجاوي قبل سنوات أتى في ظروف مختلفة، وأن الوزير السابق ميشال سماحة ضُبطت في حوزته متفجرات لا تسمح لأحد بالدفاع عنه. أما وئام وهاب، فارتكب، في حال صحّ ما نُسب إليه، «جريمةَ قولٍ» لا أكثر، وأن موازين القوى الداخلية والإقليمية لا تسمح لأحد بالتعسف في استخدام القوة الرسمية، وأن تعزيز موقفه في مفاوضات تأليف الحكومة لا يمكن أن يمر عبر استضعاف أي حليف لحزب الله. ربما نسي الحريري أن من أضعفه هو أداؤه وأسلوب تعامل راعيه الإقليمي، محمد بن سلمان، معه، وأن ما حماه هو التوازن الداخلي الذي يميل لمصلحة خصومه. ورغم مأساة استشهاد محمد بو دياب، فإن ما جرى في الجاهلية يمكن أن يعيد بعض أصحاب الرؤوس الحامية إلى رشدهم. وبالفعل، كانت مصادر رفيعة المستوى في تيار المستقبل تستبعد أمس أن يترتّب على إشكال الجاهلية أي تداعيات سياسية أو أمنية، يُمكن أن تخرق الجهود الرامية إلى الحفاظ على الاستقرار العام. لكن، يبدو تيار «المستقبل» في موقع المكابر. هو يرفض الاعتراف بالضرر الذي أصابه، سياسياً وشعبياً، وحتى أمنياً. فبرأي المصادر المستقبلية، إن «ما حصل لا يضرب صورة فرع المعلومات، فهو جهاز مشهود له في العمل الأمني». وقالت المصادر إن «القوة توجهت الى المنطقة بقرار من المدعي العام التمييزي وغادرتها بقرار منه»، رافضة أن «يستغل أي طرف الإشكال التقني حول أحقية فرع المعلومات في تنفيذ هذه المهمة وتحويله الى خلاف في مسألة شرعيته»، مؤكدة أن «من حق شعبة المعلومات القيام بأمر التبليغ والإحضار بصفتها ضابطة عدلية». لكن ما فات المستقبليين أن الامر ليس تقنياً، بل سياسي من جهة، وقضية «صورة وهيبة» من جهة أخرى.

في هذا الوقت، لا يجد «المستقبل» ضيراً في ملء الفراغ ببعض التحريض المذهبي لتغطية الخطأ الذي ارتُكِب في الجاهلية. وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق الذي أكّد أن «وفاة الفقيد محمد بو دياب تخضع لتحقيق قضائي يحدد المسؤولية عن الوفاة ولا يترك الأمر لاجتهادات سياسية فتنوية»، حسم التحقيق مسبقاً عبر القول إن «بيان قوى الأمن الداخلي يستند إلى تدقيق مسؤول في مهمة محددة قانوناً وواضحة لجهة أن إطلاق النار العشوائي من قبل مسلحين في الجاهلية هو الذي أدى إلى إصابة بو دياب في خاصرته ومن ثم وفاته في المستشفى». وإعجاباً منه، ربّما، بلقب «ضمير السنّة» الذي أطلقه عليه بعض أنصاره قبل أسابيع، تولى المشنوق العزف على الوتر المذهبي، من خلال القول إن «حفظ الكرامات ليس حقاً حصرياً لأحد، لا فرداً ولا طائفة. الشهيد رفيق الحريري هو ضميرنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومن يتعرض له يتعرض لكرامة كل أهل السنّة وكل الشرفاء اللبنانيين. وليطمئن الجميع، لن يتراجع الرئيس الحريري عن صلابته الدستورية في تشكيل الحكومة، ولن يعتذر عن مهامه ولو وصلت الضغوط إلى قمم الجبال». وختم المشنوق بالقول «لن ننجر إلى الفتنة مهما فعلوا ومهما قالوا. كلنا رفيق الحريري في اعتداله وحكمته وتوازنه. وما يجري في لبنان منذ أشهر ليس مساراً لتشكيل حكومة وحدة وطنية، بل هو قرار بالتعطيل الفعلي مرات بالسياسة وأكثر بالتهديد والوعيد وسياسة الأصبع المرفوع، وأخيراً بالتغطية الكاملة للخروج عن القانون والدولة. لكن الدولة لن تستسلم».

أحداث الجاهلية أثّرت على الاتصالات السياسية ومبادرة وزير الخارجية جبران باسيل لحل «العقدة السنّية»، إذ توقفت الاتصالات تماماً في اليومين الماضيين بعدما كانت قد سجّلت «تقدماً كبيراً». مصادر مطّلعة على الاتصالات أملت ألا «تؤخذ أحداث الجاهلية ذريعة لمزيد من التأخير في تأليف الحكومة»، مشيرة الى أن أحداث الأسبوع الماضي «يجب أن تشكّل دافعاً لتسريع التأليف وسحب فتيل التوتر من الشارع». مصادر التيار الوطني الحر أوضحت لـ«الأخبار» أن اقتراح توسيع الحكومة الى 32 وزيراً الذي طرحه باسيل «لم يلقَ رفضاً من أحد، والجميع طلب مزيداً من الوقت لدرسه»، مشيرة الى أن هناك «اقتراحات أخرى ومجموعة من الأفكار لا يمكن إلا أن تقود إلى حل لن يخرج أحد معه خاسراً، لأن الأفكار المطروحة تتفق ومعايير التمثيل المعتمدة». ولفتت الى أن باسيل كان يعمل قبل الأحداث الأخيرة على الدفع لعقد لقاء بين رئيس الحكومة المكلّف ونواب اللقاء التشاوري، «وكانت الأجواء ايجابية» في هذا السياق. خلاصة ما تقدّم أن ما جرى في اليومين الماضيين يؤكد أكثر من أي وقت مضى الحاجة إلى التواضع، وتأليف حكومة... الآن!