ثمة حاجة بالغة اليوم لتجاوز السياج الذي وضعه الزركشي (794هـ) ومن بعده السيوطي (911هـ) على صعيد علوم القرآن، بمعنى ضرورة السعي العلمي الجادّ والأصيل لقراءة علوم القرآن قراءة تواكب آخر منجزات العلوم ذات الصلة بالبحث القرآني، سواء داخل الدائرة الإسلامية التراثية سيما علمي الفقه وأصوله، أو خارج هذه الدائرة من الألسنيات وعلوم اللغة وفلسفتها الحديثة.

ونعني بهذا الطرح، لا تجاهل التراث أو القطيعة الكاملة معه، وإنما قراءته لتجاوزه، ومن ثم استكماله في سلسلة مترابطة ذات طابع تطوّري، وإذا كان المفكر الشهيد محمد باقر الصدر (1400هـ) قد نعى علم التفسير عندما اعتبره قد توقّف عند القرنين الخامس والسادس الهجريين([1])، وهو في نعيه هذا قد لا يكون مصيباً بالدقة عندما نعرف مدى التطوّر المذهل الذي شهده علم التفسير في القرن الأخير، فإنه يمكن تطبيق النعي عينه على علوم القرآن الأخرى عدا التفسير، ومن ثم فليس من تفسير واضح للجمود ـ حتى اليوم ـ على ما أتى به الزركشي والسيوطي سوى حالة الاتباع لا الابداع التي مني بها غير ميدان معرفي، مع التقدير الكامل للجهود التي بذلت في القرن الرابع عشر الهجري على صعيد علوم القرآن أيضاً.

وفي سياق إنتاج قراءة جديدة، ظهرت محاولات الباحث المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد (متولد: 1943م) سيما في كتابه "مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن"، لتقديم قراءة يراها صاحبها ـ على الأقل ـ جديدة لعلوم القرآن، مهما كان موقف معارضيها، وإذا لم تكن محاولة أبو زيد موفّقة في الإتيان بجديد، فإن جديدها أن صاحبها انطلق فيها من هاجس الابداع، وهي خطوة محمودة اليوم رغم الأخطاء العلمية المفترضة التي تكتنف النتاج نفسه، إنها خطوة يقيّمها حسن حنفي بأنها ((فتح جديد في الدراسات الإسلامية، القرآنية والأدبية واللغوية، (يتجاوز) تكرار القدماء الذي لا يضيف جديداً، أو تقليد المحدثين لعلم اللسانيات الحديث، وما أكثره لدى إخوتنا المغاربة ترجمةً وتأليفاً))([2]).

بدورنا، سوف نحاول في هذه الوريقات دراسة نظرية أبو زيد بصورة مجملة للقرآن وعلومه، مسجلين تعليقات خاطفة وموجزة.

بين الخطاب الديني والمنهج العلمي

يحاول الدكتور نصر حامد أبو زيد في مقدّمة مشروعه لفهم علوم القرآن فهماً جديداً، تقديم تجربته بوصفها مماهاةً للمنهج العلمي غير المؤدلج، وهو بذلك يضع ثنائية تمايز الخطاب الديني عن المنهج العلمي، هذه الإمازة يجدها أبو زيد في الايديولوجية التي تحكم الخطاب الديني ويتفلّت منها المنهج العلمي.

ان محاولة أبو زيد محاولة لقراءة النص قراءة علمية محايدة، دون ممارسة ((توجيه أيديولوجي))([3])، وهو من هنا وتأثراً بمدرسة أستاذه أمين الخولي (1966م)، يرى في الدراسة الادبية للنص كفيلاً يحقق وعياً علمياً، يتجاوز مجرد جمع التراث أو تسهيله أو إحيائه([4])، ومن هذا المنطلق يُدخل أبو زيد مجال التاريخية وجدل النص والواقع أساسين لتشكيل وعي علمي، فيبني قراءة النص طبقاً لآليات العقل التاريخي لا العقل الغيبي الأسطوري([5]).

وانسياقاً مع ثنائي العلماني الديني، يحاول أبو زيد أن ((يستلهم في مواقفه طه حسين وربما يتقمّص دوره، ولهذا فهو يعتبر أن المعركة الفكرية الدائرة الآن بين الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين، هي استمرار للمعركة التي أثارها طه حسين في الثلاثينات من (هذا) القرن (العشرين) حول كتابه: في الشعر الجاهلي)) ([6]).

وبهذا، يضع أبو زيد نفسه داخل التقسيم الاجتماعي والسياسي المعاصر، ومن ثم يصبح عرضةً لايديولوجيا العلم نفسه، إنه ((لا يقف على الحياد مما يجري، ذلك أنه لا يفصل بين مهامه الأكاديمية وبين همومه السياسية والاجتماعية))([7]).

أما على خط الدراسة الأدبية، فإن موقف أبو زيد هذا يشبه إلى حد بعيد ـ وحسب رأي علي حرب ـ ((موقف أدونيس الذي يتعامل مع النص القرآني بوصفه أيضاً نصاً لغوياً، يُقرأ كما يُقرأ النص الادبي، أي ((خارج كل بعد ديني)) على ما جاء في كتابه ((النص القرآني وآفاق الكتابة)) كذلك يقترب أبو زيد [ودائماً حسب علي حرب] في طريقة تعامله مع القرآن، من أركون الذي يعتبر أن الخطاب القرآني، شأنه شأن أي خطاب ديني، هو نتاج معرفي يخضع للشروط النقدية التي تخضع لها النتاجات المعرفية الأخرى، أي خطابات البشر...))([8]).

وثمة انتقاد لخطوة أبو زيد هذه، ذلك أن كلمة ((القرآن نص لغوي)) كلمة عمومية ملتبسة بالنسبة للبعض، ولهذا يفضل حرب تعبير نص نبوي، نائياً به عن الدين في الوقت ذاته باستحضار تعبير أدونيس عن نفسه ((نبي وثني))([9])، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا معنى لحصر أبو زيد منهج فهم القرآن بالمنهج اللغوي، فالقرآن يدرس طبق غير واحد من المناهج، تماماً كما فعل أركون، باستخدامه ـ الى جانب المنهج اللغوي ـ المناهج السيميائية، والأركيولوجية، والسسيولوجية ومنهج النقد التاريخي([10]).

وبالمنهج اللغوي، ومحاولة اكتشاف المدلول عبره، وضع أبو زيد نفسه أيضاً في مأزق كما يراه البعض، فتحوّل الى ألسنيّ كلاسيكي يتبع المنهج الواقعي بدل ألسني حديث يقصر متابعاته على وقائعيات النص([11]).

وما فعله أبو زيد في تمهيد ((مفهوم النص)) بوضعه عنوان ((الخطاب الديني والمنهج العلمي))، عاد وكرّره في تمهيد ((النص والسلطة والحقيقة)) بوضعه عنوان ((التراث بين التوجيه الأيديولوجي والقراءة العلمية))([12]).

وفي هذا البحث، سعى أبو زيد انطلاقاً من ((القراءة العلمية)) لتفكيك الدين عن التراث، تفكيكاً يلغي تطابقهما محاولاً إقصاء بعضَ السنّة النبوية، وتوجيه نقده لخطوة الشافعي (204هـ) في السنّة نفسها، مستهدفاً تزييف إضفاء القداسة على التراث([13]).

ويخصّص أبو زيد تمهيده هذا لنقد صارم للنهضة الإسلامية الحديثة من الطهطاوي الى ما بعد الهزيمة / النكسة، فيبدي تارةً تناقضات محمد عبده (1905م) في أخذه بمبدأ الاختيار الانساني والعدل المعتزلي من جهة وانتقائه التوحيد الأشعري من جهة أخرى، متذبذباً بعض الشيء في مسألة خلق القرآن([14])، وأخرى تناقضات طه حسين (1973م) بين إنكار مرجعية القرآن في قصص الأنبياء واعتباره مرجعاً للحياة الجاهلية، رغم التقدّم الذي أحرزه طه حسين على صعيد تحويله الغرب الى أداة منهجية لتحليل التراث([15])، وثالثة مع زكي نجيب محمود (1993م) في تراجعاته و...([16])، وقد خلص أبو زيد في نقده لخطاب النهضة الى القول: ((إن خطاب النهضة وفكر النهضة صار تراثاً يخضع للفهم والتفسير والتحليل، لا لإعادة إنتاجه وتسويقه على طريقة الانفتاح الاقتصادي...)) ([17]).

ان مشكلة خطاب النهضة عند أبو زيد تتراوح بين التلفيقية ومرجعية النافع وبين المنهج الدفاعي الذي فرضه عليها التياران السلفي والاستشراقي معاً([18])، وهذه التلفيقية تجعل الحقيقة هي النافع في نوع من البراغماتية الفكرية، فيما النافع هو الحقيقة([19])، وبهذا امتاز العلم عن الايديولوجيا، وسقط خطاب النهضة في موحلة التوجيه الايديولوجي، وفي تناقضات الصالح والنافع حتى في أرقى أشكاله مع زكي نجيب محمود وحسن حنفي، وفي آخرها مع محمّد شحرور([20]).

وفي سياق تعليقنا على مزدوج (العلمي ـ الديني) ـ المنهج الغوي، نسجل وقفات:

الأولى: إن الثنائية (النقيضين) التي يضعها أبو زيد، أي الديني / العلمي واصفاً الأوّل بأنّه يخضع للتوجيه الايديولوجي، يمكن التوقف عندها قليلاً، ذلك أن هذا الثنائي المستورد في حدّ ذاته، لا يبدو علمياً دائماً، ثمّة إسقاطات ايديولوجية من جانب التيار الديني على النص، لا بل ثمة تلاعب به وتطويع له، إنها مشكلة قديمة جديدة، يبدو من الصعب أن نبرّء أحداً منها إلا من عصم الله، لكن إشكالية هذا الثنائي تكمن في:

1 ـ أنه يفترض المنهج العلمي، غير مؤدلج، وهذا أمرٌ ثبت ـ ربما ـ للجميع زيفه، إنه وهم تقليدي في دائرة الحداثة، فقد أقرّ أبو زيد نفسه بأن الوصول الى الدراسة الموضوعية للنص وهمٌ ليس إلا([21])، إن خلفيات القارئ حاضرة دائماً سواءً كان دينياً أو حداثياً أو علمانياً (بالمعنى العلمي للكلمة)، ومن ثم فلا تصحّ هذه المقابلة عندما يكون اساسها ما يسميه أبو زيد نفسه ((التوجيه الايديولوجي)) كما تقدّم.

2 ـ يجب تحليل هذه المقولة الشائعة التي تصفُ كل ما هو ديني بأنه ايديولوجي بما تحمله الكلمة الأخيرة من معنى سلبي لها اليوم تضم إلى صف واحد القرون الوسطى والتيارات الماركسية و...، إن الدينيين عندما يطوّعون النص يدّعون بأن هذا التطويع ناشيء عن معطيات دينية قبلية مؤكّدة، والتي هي بدورها ناشئة عن معطيات سبقتها حتى تصل المعطيات الى قضايا العقل المفارق للنص عند أحسن اتجاهاتهم، وهم بذلك يدخلون معطيات علمية متراكمة، غاية الأمر أن بعضها ينتمي إلى المضمون الديني.

وما دامت معطياتهم قائمة على معطيات تصل في نهايتها الى العقل، فإن هذا يخوّلهم إدخالها بوصفها عنصراً في التحكيم.

وبناءً عليه، فالمشكلة ليست في تطويع النص من جانب التيار الديني طبقاً لخلفيات، فإن هذا ما فعلته أيضاً تيارات علمانية، وتورّطت فيه أيضاً النهضة الحديثة منذ الطهطاوي (1873م) وحتى عصرنا الراهن، وتفسير الطنطاوي (1940م) والاسكندراني (1306هـ) شاهدان بارزان على ذلك، إنما المشكلة في ((النص)) واعتباره مرجعاً معرفياً، ومن ثم في تحديد علاقته مع العقل، ومن له الأولوية، ومن ليس له ذلك... إنها مشكلة التناقض القديم بين الحقيقة والطريقة والشريعة التي سعى ابن رشد (595هـ) ومن بعده صدر المتألهين الشيرازي (1050هـ) لحلّها.

عندما يولى العقل سلطاناً مطلقاً فهذا يوحي لاتجاه العقلانية بأن تحريك المعرفة والعلم طبقاً للنص هو عملية أدلجة مزيفة، لأننا سلفاً لم نقرّ بالنص مرجعاً معرفياً، أما لو افترضناه مرجعاً معرفياً وانطلقنا معه من البداية التي هي خلفياتنا التي لم يخلص منها أحد، فإن نتائجنا ستكون علمية تماماً وفق الاسس والمناهج الايبستمية التي انتقيناها.

وإذا كان التيار الديني، قد تلاعب بالنص لحفظ الواقع القائم وتبريره، كونه يبقي على التشكيلة الاجتماعية والسياسية التي تحافظ طبقياً على منافع الأولياء على الدين وأدعياء الوصاية، فإن التيار العلماني الفاقد لسلطة نافذة في الحياة العربية والاسلامية سيما بعد فشل المثقف الذي أعلنه تيار النهضة ومن بعده، هو الآخر سعى لتطويع النص ـ ولو من الخارج أحياناً ـ أو سعى لنسفه تحقيقاً لمصالح أخرى، إذا أردنا أن نكون أوفياء لتحليلنا السسيولوجي و...

ومن ثم، فإطلاق عنوان الأدلجة على التيار الديني وتـنـزيه غيره عن ذلك مغالطة، يجدر لتفاديها استبدال عنوان الاشكالية الموجودة فعلاً، ونحت مصطلحات بديلة تفي بحقيقة المشكلة التي نقرّ بها، وتعبّر عنها أحسن تعبير، أو الأخذ بعنصر مرجعية النص وعدم مرجعيته فاصلاً بين ما هو علمي وما ليس بعلمي.

الثانية: إن محاولة أبو زيد في أكثر كتبه إسقاط الأصولية كلمةً لها مداليلها اليوم سيما في مصر والعالم العربي، على التيار الديني تبدو مجحفة الى حدّ ما، إن هذه المحاولة تسعى لاشتمال طيف وسيع من التيارات الدينية التي قد تتناقض فيما بينها تحت عنوان واحد قد لا يجمعها، ومن ثم ففي التيارات الدينية المعاصرة أجنحةً ـ سواء في الوسط الشيعي أو السني ـ بريئة من كثير من التهم التي يوجهها أبو زيد لما يسميه التيارَ الأصولي.

ولا تعنينا تبرئة أجنحة سياسية، فهذا ما لا شأن لنا به، إنما تبرئة اتجاهات فكرية داخل التيار الديني الاسلامي المعاصر لعل أبو زيد استخدم معها منطق المماثلة معمّماً تجارب خاصّة دون أن ندخل في أسماء ومسمّيات، رغم إقرارنا بأن بينها جميعاً مشتركات لا تتعالى عن النقد.

وهذا معناه، أن أبو زيد مطالب بشيء من التمييز الذي يقتضيه الإنصاف، وعدم سوق أطراف فيما بينها تناقض، مساقاً واحداً تحت شعار حمل في بطنه مدلولاً تشاؤمياً اليوم.

الثالثة: نشير في مناقشة أبو زيد في قراءته للغزالي كما سيأتي، أنه كان يريد نقد واقعه من خلاله، إلا أن ملاحظتنا العامّة على أبو زيد ـ ككاتب لا كشخص كانت له حقوقه التي يستحق المواساة عليها ـ أنه خلط البحث العلمي الاكاديمي بهموم الواقع أزيد من الحدّ اللازم، بل لقد أفرط أحياناً، وعندما وجّه إليه محاوره الايراني مرتضى كريمي نيا سؤالاً عن سبب إدخاله بعض الأحداث المصرية في هامش مفهوم النص، تفلّت أبو زيد بأن الهامش كان في مقدّمة الكتاب لا في المضمون عينه([22])، ويبدو أن محاوره قد قنع بهذا الجواب، ظاناً ان المشكلة تكمن في الدخول في جزئيات يومية، فيما تستكنّ في الحقيقة في لغة ذات طابع تعميمي، بيد أنها تحكي عن مشاكل يومية، وهذه هي اشكالية خطاب أبو زيد ليس لوحده، بل إن الحركة العلمانية (بالمعنى الواسع للكلمة) باتت تلهج بهذه اللغة، الأمر الذي أقدّر أن الخصم هو الذي فرض عليها ذلك، وجرّ رموزها الى السقوط في لغةٍ غير متعالية.

لا نريد فصل المثقف عن هموم العصر أو تلبيس الأمر، وإنما سعيٌ عنوانُه محاولةٌ قدر الإمكان لتحقيق دراسات علمية أكاديمية تتعالي ـ كما يفهم أبو زيد عنوان المنهج العلمي ـ عن الخلفيات وعمليات الخلط المتعمّد جهد المُكنة.

الرابعة: ثمة دعوة نوجّهها ـ يقصدها أبو زيد بالتأكيد ـ وهي أننا اليوم ـ حتى لو اقتنعنا بألوهية النص القرآني ـ محتاجون لقراءة هذا النص دنيوياً، أي يجب القيام بقراءة لا تأخذ ألوهية المصدر بعين الاعتبار.

والسبب الذي يحدو إلى ذلك، هو أن القراءة المنطلقة من أسس عقلية دينية، تساهم أسسها وخلفياتها في حل إشكاليات وتناقضات بادية في النص ملقيةً على القلوب سكينة واستقراراً، وإذا كانت هذه السكينة مقَرّاً بها، بيد أنها لا تجيب عقلانياً عن الإشكاليات الموجودة من زاوية ((خارج الدين))([23])، ومن ثم تغدو أعجز عن أن تقدّم منظومة منطقية تسهم في إقناع من لا يأخذ بالمبادئ الدينية، وهذا معناه أن الحاجة متعدّدة:

أ ـ دينية داخليّة أيديولوجيّة([24])، تنبع من ضرورة عرض الدين بلغة ذات طابع عولمي، أي قادرة على خطاب حتى ذاك الذي لا يعي الأصول الدينية الداخلية، وهي حاجّة ماسّة اليوم لم يعد ممكناً التغاضي عنها.

ب ـ علمية معرفية، إذ إن القراءة المحايدة للنص، تسمح بملاحظة مساحات مغيّبة في القراءة الدينية بفعل سلطان الاصول المقرّرة داخلياً، وهذه المساحات المغيّبة أو البقع الغائمة إذا ما تراكمت فسوف تؤدّي الى نوع من ارتباك وفوضى معرفية.

إذن ثمة حاجة لدراسةٍ لا دينية (بهذا المعنى) للنص القرآني بغية كشف مساحاته كافّة لايجاد مكوّن متكامل الصورة عنه.

في نفس الوقت، ثمّة حاجة ـ لا رخصة ـ لقراءةٍ دينيةٍ داخليةٍ للنص، لان مساحات أخرى منه لا تبدو إلا إذا ملأ الإيمان قلب قارئه، وهذا أمرٌ ملموس في قراءة النصوص الأدبية التي تحتاج لتفسيرها الى تفاعل غير عادي، يلعب في مثل النص القرآني الايمانُ دوراً بالغاً فيه.

وهذا ما يقودنا إلى ثنائي قراءةِ للنص الديني، ربما يكون أقدر من غيره على إزالة الأستار الحاجبة للنص ودلالاته، والخطوة التي قام بها أبو زيد وإن لم يكن من الممكن حسابها على القراءة الخارجية بيد أنها تحمل طابع هذه القراءة ونواتها.

الخامسة: أحاول في هذه الملاحظة تأييد أبو زيد في رأيه حول ضرورة قراءة خطاب النهضة لا تمثّله وإعادة اختباره، واستدراج هذه المقولة إلى المدار الشيعي الذي لم يلاحظه غالباً لا أبو زيد ولا غيره في دراسة الفكر الإسلامي، اللهم إلا للنقد أو التقريع مع الأسف، وهذه إشكالية أخرى لا نتحدث فعلاً عنها.

إن خطاب النهضة الشيعي منذ محسن الأمين (1952م) ومحمد حسين النائيني (1355هـ) والخالصي (1343هـ) والمظفّر (1383هـ) والشهرستاني (1386هـ) وحتى الصدر (1400هـ) ومطهري (1979م) وشريعتي (1977م) ومغنية (1979م) والطباطبائي (1983م) و... لم يعد قادراً بحالته التي هو عليها على حلّ الإشكاليات المعاصرة كافّة، ومن ثم لا معنى لترويج ثقافة بعثه بعثاً جسمانياً وروحانياً معاً، ثّمة في كل فكر عناصر متحركة تزول بمرور الأيام وأخرى ثابتة، ومن الخطأ التشبّث بالعناصر المتحرّكة في ظروف تباينت فيها تلك العناصر، ومن ثم كان من اللازم تشكيل وعي جديد مخالف لذاك الوعي الذي تشكّل في القرن العشرين، يستمدّ منه ولا يكون صدى له، وهذا معناه ضرورة أن يكون هناك قراءات ناقدة علمية لنتاج خطاب النهضة الشيعي، لا قراءات تبجيلية تستهدف على الدوام استخدام منطق تعتيمي.

ولا يعني ذلك تغييب هذا الخطاب، كما يحاول تيار أن يفعل ذلك، فهذا بترٌ لعملية التطور الداخلي التي يجب عدم بترها، ومن ثم قراءة هذا الخطاب واكتشاف سلبياته وإيجابياته هو القادر أكثر من غيره على تحقيق التواصل الطبيعي الذي يستطيع الحدّ من خلق فجوات فكرية واجتماعية أيضاً.

والسؤال الذي طرحه أبو زيد وغيره على خطاب النهضة العربي هو عينه يمكن توجيهه الى خطاب النهضة الشيعي، لماذا فشل هذا الخطاب ووقف دونما حراك([25])؟ ولماذا تستعيد اتجاهات ما قبل خطاب النهضة حياتها وبقوّة لتتسلم مقاليد الأمور؟ لماذا العودة لعزلة الإسلام بعد عقود مضنية ملأها الإمام الخميني (1989م) بإخراج هذا الإسلام من القمقم؟! ولماذا النكوص إلى أخبارية مفرطة بعد قرن من العقلانية؟ ...

أسئلة يجب دراستها بروح علمية رصينة وبعقل مستوعب للتطوّرات، لنتأكد من أن الإشكاليات التي عصفت بخطاب النهضة العربي أو السنّي عصفت أيضاً بخطاب النهضة الشيعي مع فوارق بالطبيعة، دون أن نماثل بين ظواهر تبدو المماثلة فيها مستعصية.

أنطولوجيا النص ومدلولاته

يسعى الدكتور أبو زيد في دراساته عموماً و ((مفهوم النص)) خصوصاً لتأكيد أساس جديد في قراءة النص وآلياتها، وأوّل أركان القراءة الجديدة للنص القرآني ـ أو ما يسمّيه أركون الخطاب القرآني([26]) ـ هو تحليل النص نفسه، في خطوة تبعدنا فيه عن مقصود المؤلّف وغرضه من وراء الكلام، إنها عملية تحليل لوقائعية النص وكينونته المستقلّة، ليدرس تمايزه، بل وتمييزه لذاته عن بقية النصوص المتشكّلة في الثقافة، وهذه الخطوة التي تبدو في الفصل الأوّل من مفهوم النص (مفهوم الوحي)، ولدى تحليل أبو زيد ((الحروف المقطّعة في أوائل السور)) في الفصل الثالث من الباب الثاني، بشكل أكبر من بقية الأبواب والفصول، تضع أبو زيد في سياق الألسنيات الحديثة التي أعلنت موت المؤلّف، وأعرضت دون رجعة مستنكفةً عن مقصوده، ومن ثم عن وضع آليات تمنهج الوصول الى هذا المقصود النهائي الذي أطلق عليه علم أصول الفقه الإسلامي مصطلح ((المراد الجدّي)).

إن عملية تحليل النص ذاته، بعيداً عن المؤلّف وحتى المفسّر، هي التي تمنح النص كينونته وتجنّب هدرها كما يقول علي حرب([27])، وأية محاولة للعودة للوراء (وفق الزمن الهرمنيوطيقي) تصب ـ من وجهة النظر هذه ـ في عملية إهدار لكينونة النص سواء استخدمنا المنهج القديم وآلياته في قراءة النص أو أخذنا بمنهج أبو زيد نفسه الذي يحاول ربط النص دائماً بالواقع، ولهذا تذهب وجهة النظر هذه الى نفي النقد الايديولوجي الانطولوجي للنص، لانه يستهدف تحديد المقول، فيما المطلوب نقد علمي يكشف المستور والمجهول في النص، وهو باب أوّل من فتحه أركون وغيره أيضاً([28]).

ولسنا نمارس إلا توصيفاً، ولا نوافق علي حرب في حملته الناقدة لأبو زيد بوصفه محاولته بأنها خطاب يناهض الأصولية ولكنه يقف على أرضها([29])، معتبراً إيّاه تقدمياً علمانياً في ملفوظاته لكنه أصولي من حيث بنية تفكيره([30])، مفضلاً تسمية أخرى لمفهوم النص هي ((نقد النص)) كما فعل هو في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، وقد انطلق حرب في ذلك من اعتباره ((مفهوم النص)) تحليلاً نقدياً للقرآن وعلومه([31])، مصنفاً اياه في عداد سلسلة نقد الفكر الديني عموماً والنبوي خصوصاً([32])، وهو إن عابه على ذلك فقد أقرّ له بأنه حقّق ما تحفظ منه في ((مفهوم النص)) في كتابه اللاحق ((الخطاب الديني رؤية نقدية))([33]).

من الواضح أن أبو زيد يقوم في ((مفهوم النص)) بمحاولة تغيير داخلي كما يصرح هو نفسه أيضاً([34])، أو فلنقل إنقلاب أبيض، وهذا المنهج عموماً لم يعد يرضى به فريق من التيار الموسوم اليوم بالعلماني، انهم يريدون تجنّب النص نفسه والنأي بالذات عنه، تحقيقاً لمرجعية بديلة كائنة ما كانت، وهو ما لم يقم به أبو زيد في تحليله لعلوم القرآن، حيث حضرته مجمل النصوص التراثية من الغزالي والباقلاني والزركشي والسيوطي والقاضي عبدالجبار وابن خلدون والجرجاني وابن عربي و... ولم يشذّ عن محاولته الداخلية هذه سوى بعض الأبحاث القليلة مثل مفهوم الوحي ودراسته له.

وإذا كانت مكرمة علي حرب ـ وأدونيس ـ انه صريح في أفكاره شفّاف فيما يقول، فإن الكثيرين من الذين يوافقونه الرأي، ويعملون وفقاً لذلك، يحاولون تحقيق الغاية نفسها عن طريق إفراغ داخلي، وهي مفارقة تستحق التأمّل.

وعلى أية حال، عندما يدخل أبو زيد منطقة الحروف المقطعة مستعرضاً النظريات المقولة فيها من التفسير العددي الذي يربطها بتاريخ الاسلام، مروراً بالتفسير الرمزي الذي يجعل منها إشارات للأسماء والصفات الإلهية.. وصولاً إلى تصنيفها أسماء للسور الواردة فيها و.. فإن ما يعنيه في تحليل هذه الحروف وما يفهمه من جماع التفسيرات الكثيرة لها (13 تفسيراً) ليس سوى إصرار النص في بقعة الغموض هذه على إمازة نفسه، ومن ثم قدرته على التفاعل مع الثقافة زمكانياً، وهذا ما يدخل أبو زيد في عملية تحليل ـ كما أشرنا ـ تتجاوز مدلول الحروف المقطّعة والمقصود الإلهي منها وفق نظم الدلالات، لتصب في عملية درس النص عينه ومكانته بين النصوص.

وتبدو عملية التفكيك المضنية التي يمارسها أبو زيد لمفهوم الوحي، اكثر تدليلاً على ما نقول، فعندما يحاول أبو زيد تفسير وجود الوحي في الثقافة ليربط بين هذا الموضوع واعتبار القرآن ((منتجاً ثقافياً)) في النهاية، لا يعنيه عدا تحليل مفهوم النص نفسه، إن النظرية التي تقول بأنّ النص يتولد من الواقع ثم يقوم في حركة راجعة بإعادة صوغ الواقع ليركّبه تركيباً جديداً، ليست سوى محاولة لتحليل النص ذاته.

ويحلّل أبو زيد في ((النص والسلطة والحقيقة)) إعادة إنتاج النص للواقع في حركته الراجعة، ((بعملية إعادة بناء دلالة العلاقات اللغوية في نظام اللغة الأساسي، حيث يتم تحويل تلك العلاقات في نسق العلامات اللغوية الى نسق العلامات السميولوجية (أو السيميوطيقية)، وبعبارة أخرى تقوم اللغة الدينية من خلال عملية التحويل تلك ـ ويطلق عليها مصطلح السمطقة Semiosisـ بالاستيلاء على اللغة الاساسية والاستحواذ عليها، والاستيلاء على اللغة يعني الاستيلاء على ((العالم)) الذي تنظّمه اللغة من خلال نظامها العلاماتي، وهذا يفضي بدوره إلى الاستيلاء على ((الإنسان)) عن طريق امتلاك وعيه بآليات التحويل...))([35]).

وبهذا نفهم الخطوة المتقدّمة التي خطاها أبو زيد في دراسة النص القرآني من زاوية حديثة هذه المرّة متابعاً في ذلك أنماط الفهم الهرمنيوطيقي الحديث.

واذا كانت علوم القرآن، وعلم الكلام الإسلامي والفلسفة أيضاً، قد درست النص بهذه الطريقة في ثنائيات عديدة وضمن اجابات متنوّعة امتدت من تحليل حقيقة الوحي وأنواعه (نظرية الخيال عند الفارابي) حتى الاعجاز وأشكاله، وبذلك نكون قد سجلنا ملاحظة ناقدة على القطيعة التي ربما يحاول البعض إحداثها، بافتراض أن دراسة النص بوقائعيته أمرٌ غير مسبوق في الألسنية الحديثة، فيما يتم تجاهل كلّ الجهود التي بذلت سابقاً من جانب فرقاء في الفكر والعلوم الإسلامية... فإن ما يميز أبو زيد اعتماده ـ كما يوحي ـ الخروج عن ما يسميه أركون السياج الدوغمائي المغلق، وعن الايديولوجيات المسقطة، إذ إن منهج أبو زيد قائم ـ متأثراً بأفكار توشيهيكو ايزوتسو كما أقرّ هو نفسه([36]) ـ على فصل النص عن أرباب الانواع (حسب التعبير الإشراقي) التي تدعي أن للنص وجوداً قديماً أعلائياً منشأةً علاقة وطيدة بينه وبين الصفات والذات الأزلية كما هو الحال في الفكر الأشعري، إن نفي الاعتقاد بقدم القرآن والأخذ بحدوثه كان هو المفتاح الاكبر الذي حقّق لابو زيد تمايزه عن المحاولات السابقة في مجال الكلام وعلوم القرآن إذا أردنا أن نأخذ محاولته ضمن مناخها بوصفه مناخاً أشعرياً([37]).

ولكننا ـ وبعيداً عن الجدل الكلامي الأشعري المعتـزلي في خلق القرآن، وما جرّه من محنة على الاسلام والمسلمين ـ نحاول إثارة تساؤل عن مدى حاجة أبو زيد لاستكمال مشروعه الى تنحية مقولة قدم القرآن بالكامل.

والسؤال هو: ألم يكن بإمكان أبو زيد ربط النص بالواقع دون المساس بقدم القرآن؟ وهل صحيح أن نظرية قدم القرآن غير قادرة في عملية تطوير داخلي على وضع النص موضع المواكبة للواقع؟ وهل هي التي تتحمل فعلاً كل تخلّفات قراءة النص الديني في الإسلام؟ أم أن تخلّفات قراءة النص كانت موجودة لدى فرق (غير المعتزلة) لا تنثني تناهض نظرية قدم القرآن؟ ومن ثم فالمطلوب ملاحقة المشكلة في مكان آخر.

لعلّ الجواب يكمن في التفرقة ما بين القرآن (وفقاً لنظرية قدمه) بوصفه كياناً انطولوجياً أزلياً، وما بينه بوصفه مظاهر تتراءى لنا، إن جعل وجود القرآن أزلياً لا يعني عزله عن الواقع الذي نـزل فيه، لان معنى قدم القرآن ان الكلام الالهي صفة ذاتية فهي قديمة، واذا كان النص أزلياً فهذا معناه تعاليه عن الوقائع التي حدثت زمن الرسول 2، إلا أن هذا الجانب هو الجانب الذي يربط علاقة الله بالنص، في حين أننا نريد تحديد الجانب الذي يربطنا نحن بالنص، وهو جانب يتحرّك مع أحداثنا ووقائعنا ولو كان مكتوباً قبل ذلك لكنه ناظرٌ إلينا.

ولتقريب الفكرة نأخذ مثال علم الله بالجزئيات بعيداً عن جدل الفلسفة والكلام في هذا المثال، فإن العلم صفة ذات، لكن هذا لا يعني ان هناك قطيعة كاملة بينه وبين الواقع الخارجي المتحوّل، لان هذا الواقع هو متعلّق العلم، فإذا فصلناه عن الواقع فهذا تحويل له إلى جهل، وهكذا مثال الاختيار الانساني وفق مقولة بعض العلماء، إن الله اراد وشاء أن يقوم الانسان بالصلاة عن اختيار، فإذا صدر الفعل لا عن اختيار فهذا معناه تخلّف الواقع عن إرادة الله، وهذا ما يجعل الإرادتين الالهية والانسانية في علاقة طولية وفي نفس الوقت جدل مستديم.

إن النص القرآني القديم ناظر إلى واقع آتٍ، تماماً كنظر الارادة لوقوع الفعل عن اختيار، فكما لا يوجب ذلك سلب الاختيار عن الانسان، كذلك لا يؤدي الى سلب القرآن عن الواقع، إن علاقة النص بالله علاقة تتعالى عن الزمان والمكان لهذا فهو قديم، لكن العلاقة حينما ترتبط بالواقع تعاد إليها سمة الحركية، كعلاقة الفعل الالهي بالقدرة.

لا نبغي الدفاع عن نظرية قدم القرآن، وإنما نستهدف التأكيد على أن مشروع أبو زيد لم يكن بحاجة لنسف هذه النظرية، بل لتطويرها داخلياً، بل كان بإمكانه تخطيها دون جعلها الاساس الذي تقوم على هدمه كل محاولته، لكن أبو زيد اكتفى بتقزيم كل الفرضيات الأخرى غير فرضيته بوصفها ذات طابع أسطوري([38])، دون أن يحاول التفتيش عن منفذ يتجاهل النظرية المذكورة.

إن شاهدنا على امكانية التفكيك هذه هو تعاطي علماء القرآن، فقد نقل أبو زيد نفسه عنهم ـ وعن الفقهاء ـ ما يؤيد مقولته في تاريخية النص وربطه بالواقع، ومن ثم فقد استطاعوا في مثل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمكي والمدني.. فهم النص بوصفه حركة تفاعلية مع الواقع، دون أن تمسّ محاولتهم هذه ـ لا أقل وفق تصوّرهم ـ أسسهم الكلامية.

تاريخيّة النص / جدل النص والواقع

وبهذا المدخل الذي قطع أبو زيد به حبل الاتصال مع الأعلى دون ان ينكر ألوهية المصدر، وضع نفسه ومجمل دراساته تحت مظلة جدلية النص والواقع لتخيّم على محاولته ظلال المدرسة التاريخية، وهذا الربط الذي قام به أبو زيد بين علوم القرآن والتاريخ كان هامّاً ولامعاً في محاولته، فبعد أن نحّى ـ وفق تصوّراته ـ مقولة أزلية النص جانباً، أضحى المجال مفتوحاً له لكي يعيد انتاج العلاقة مع النص انطلاقاً من الواقع، فبدل البدء في حركة من النص إلى الواقع عكس أبو زيد المسير من الواقع الى النص، واذا ما استثنينا مباحث قليلة في دراسة أبو زيد لعلوم القرآن ـ كما تقدم ـ فإننا نجد الخط العام الذي سار عليه، بل واستهدفه، كامناً في إنشاء هذه العلاقة الجدلية بين النص والواقع.

لقد استعرض أبو زيد هذه العلاقة على صعيدين:

1 ـ على صعيد النص نفسه حينما ربطه بالواقع ليغدو منتجاً ثقافياً، ومن ثم ربط الواقع به ليكمل حلقة الجدلية التي طرحها حينما ذهب إلى تأثير النص المتمايز كالقرآن في الواقع مشكلاً الثقافة تشكيلاً جديداً.

وقد كانت هذه المحاولة أهم المحاولات، بل وأساساً للصعيد الثاني الآتي الحديث عنه، أي أن أبو زيد سعى في هذه المحاولة هنا لبناء النص من زاوية انطولوجية وجودية كمقدّمة لاستكمال أو فقل للشروع في دراسة علوم القرآن بوصفها منهجاً ايبستمياً دراسةً تتناسق وانطولوجيا النص نفسه، فعندما يكون النص في وقائعيته مفارقاً بمعنى من المعاني للذات الصادرة عنه في عينها وصفاتها وأسمائها، ومن ثم ـ كما يراه أبو زيد ـ كياناً في الزمان والمكان لا متعالياً عنه، فإن هذا يعني بناء الارضية المناسبة لتاريخية النص أنطولوجياً، بوصفها مقدمة لتاريخيته معرفياً، أي لبناء قراءته وآليات هذه القراءة على أساس تاريخي كما فعله أبو زيد فيما بعد سيما في أسباب النـزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ، وهو ما جهّز له المجال لتسجيل نقده القوي على الغزالي في دراسته الاخيرة من ((مفهوم النص)).

2 ـ على صعيد فهم النص وقراءة مدلولاته، أي وضع آليات القراءة في سياق تاريخي، وفي إطار جدل، هذا الجدل يمكن تصنيفه الى صنفين كما نفهمه من أبو زيد نفسه:

الأول: جدل النص مع القارئ، مستبعدين المؤلّف والواقع المحيط بالنص نفسه، وهو جدل ركّزت عليه الدراسات الهرمنيوطيقية والسيموطيقية الأخيرة، بل هو ـ كما يقول أبو زيد نفسه ـ نقطة البداية والقضية الملحّة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا([39])، لكنه تركيز يراه أبو زيد مبالغاً فيه على حساب كينونة النص، وقد اهتم به كثيراً في دراستيه الشهيرتين حول التفسير والتأويل عند المعتـزلة وعند المتصوّفة في أرقى أشكالهم مع محيى الدين بن عربي([40]).

إن النص كيان صامت، كما يحلو للدراسين الايرانيين المعاصرين توظيف هذا المصطلح كثيراً، والشريعة من ثم صامتة لا تنطق، وهذا يعني أن فهم النص عملية لا تبدأ من النص نفسه، وإنما من دارسه ومن يقرؤه، تماماً كالطبيعة لا تحكي عن نفسها ولا تنطق عن ذاتها، وإنما دارسها هو الذي ينطق.

ان الفرضيات القبلية والبنى المعرفية التحتية التي تختـزن في ذهن القارئ، كما أن الوضع الاجتماعي والسياسي له هو الآخر يكوّن مع بقية العناصر النظّارات التي يضعها لكي يطالع النص، مما يعني أن النص سيغدو تابعاً للّون الذي اكتسبته من قبل النظّارة عينها.

((إن اختلاف مناهج المفسرين في العصر الحديث فيما يتصل بتفسير القرآن ما تزال تدور حول هذين المحورين))، محور تجاهل المفسّر لتأكيد النص، ومحور التأكيد على علاقة المفسّر بالنص، الذي بلغ مع الرومانسية مبلغاً جعل مهمة القارئ فهم المؤلّف بوصفه مقدّمة لفهم النص نفسه كما يقول ابو زيد([41]).

وانطلاقاً من هذه الفكرة، تغدو نظرتنا للتراث كلّه محكومة لنظرتنا لحاضرنا، ويتبدّد الوهم التقليدي الذي يريد الفصل بين الموقف الحالي للباحث ورؤيته للتراث، ومن ثم يبدو أمراً متناقضاً الحديث بعد ذلك ـ كما يراه أبو زيد ـ عن شيء اسمه ((الدراسة الموضوعية)) للماضي، وهذا يعني انه لا توجد ثمة قراءة بريئة كما يقول لوي آلتوسير([42]).

ورغم أن أبو زيد يقرّ بهذه الحقيقة التي ما تـزال تتحفظ عليها الكثير من التيارات الدينية، بدعوى إفضائها الى النسبية وفساد الحقيقة، الا أن دراسته لعلوم القرآن التي اختـزنها ((مفهوم النص)) لم تعتني كثيراً بهذا النوع من الجدل، جدل النص / القارئ، بل ركّز أبو زيد نظره هذه المرّة على النوع الآخر من الجدل وهو:

الثاني: جدل النص / الواقع، وهو جدل يكوّن الى جانب صاحبه الثلاثي الخطير النص / الواقع / المؤلف.

أكّد أبو زيد مراراً أن النص بمفارقته عالم الأزل والقدم، لم يصبح عدمياً، وإنما أنشأ علاقة بديلة مع الواقع، وقد حاول أبو زيد استدراج بعض علوم القرآن لكي تؤيده في مدّعاه.

وفي الحقيقة، فالطابع العام الذي يطبع دراسة أبو زيد لعلوم القرآن، طابع واضح التحفّظ، ويبدو هذا التحفظ جلياً في محاولة أبو زيد جعل خطوته تبدو وكأنها استكمال لجهود السابقين، الأمر الذي يحتاجه شديداً لكسب الخطوةِ الشرعيةَ العامةَ في المجتمع، ومن ثم تهدئة الآخرين عبر إشعارهم بأن التراث يتحدث نفسه عن هذه الأمور، ولهذا وجدنا في ((مفهوم النص)) النقل المبالغ فيه أحياناً ـ كما يصفه حسن حنفي([43]) ـ لنصوص القدماء والتركيز على اختلافهم، بوصف ذلك محاولة لاكتشاف الامتداد التاريخي لمقولته، بل لقد اعترف أبو زيد نفسه لاحقاً بتحفظه هذا الذي ألقاه جانباً فيما بعد في بقية كتبه ودراساته، وكان يريد منه التأكيد على أن ما أتى به لم يكن أمراً من عنديّاته، بل مستمداً أيضاً من الموروث نفسه([44]).

علوم القرآن وتاريخيّة النص

وعلى أية حال، وجد أبو زيد في بعض العلوم القرآنية مبتغاه، وكان أهمها:

1 ـ المكّي والمدني:يرى أبو زيد ((ان التفرقة بين المكي والمدني في النص تفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النص سواء على مستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء، وليس لذلك من دلالة سوى أن النص ثمرة للتفاعل مع الواقع الحيّ التاريخي)) ([45]).

بهذه الكلمات يفتتح أبو زيد دراسته للمكي والمدني، مؤكّداً تاريخية النص وجدلـه مع الواقع، وقد وجد في الفقهاء عينةً جيدة لتأكيد نـزعته، حيث رآهم مهتمّين بالمكي والمدني ـ كما وبأسباب النـزول ـ لكي يحلّوا مشاكل دلالية من نوع الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، بيد أنه يتحفظ على الاعتماد على المدخل الفقهي في دراسة هذا الموضوع، ذلك انه يوجب اضطرابات مفهومية خاصة([46]).

وفي إطار تحليله للمائز المفترض بين المكي المدني، يذهب أبو زيد في منهجة وضع معيار لعملية التصنيف الى تكوين مزدوج يربط فيه بين النص ذاته، وبين الواقع، فالنص من حيث بنائه ومضمونه، يقف الى جانب حركته المتصلة بحركة الواقع عنصراً أساسياً لإيجاد تصنيف يحدّد المكي من المدني، دون أن يرى في هذا المعيار أساساً حدّياً يشبه الفرز الرياضي للأمور، وهو من هنا يجد في ((الهجرة)) العنصر الفاصل بين النوعين من حيث مكية ما قبلها ومدنية ما بعدها، بوصفها ـ أي الهجرة ـ عاملاً محوّلاً للواقع.

ولعل أبو زيد لم يأت بجديد على صعيد وضع ميزان للتفرقة بين المكي والمدني، فالخصائص البنائية والمضمونية للنص كانت ملحوظة للعلماء قبل ذلك، ولهذا تحدّثوا عن طول السورة وقصرها، وعن مراعاة الفاصلة، وعن خطاب يا أيها الناس وخطاب يا أيها المؤمنون، وعن تفصيل الشريعة وإجمالها.. كما أن خصائص مراعاة الواقع كانت موجودة في وعي العلماء المشتغلين بالقرآنيات، فقد وجدوا في جدال النصارى واليهود علامةً لمدنية السورة انطلاقاً من احتكاك الدعوة بهم بعد الهجرة، فيما كانت آيات الانذار والتنديد والنكير على عبادة الاصنام.. مظهراً لمكيّة السورة انطلاقاً من احتكاك مماثل مع وثنيي قريش، الى غيرها من العلاقات([47]).

ولعل ما ميّز أبو زيد او جعل فكرته إكثر إضاءةً، محاولته تسليط الضوء على عناصر:

أ ـ خلع لباس التاريخية، وجدل النص والواقع على النص نفسه بما تحمله هذه المفردات من مداليل لها اليوم، محاولاً بذلك توظيف المكي والمدني لصالح مشروعه الشامل الهادف لإعادة انتاج القرآنيات على أساس واقعي تاريخي، ووقائعي بنائي ايضاً.

ب ـ تركيزه على رفض معيار دقيق، بوصف احداث الاجتماع والتاريخ أحداثاً متحركة رملية الطابع، ومن ثم فمحاولات العلماء وضع تصنيف دقيق للآيات والسور تصبح عديمة الفائدة عندما يراد التعامل معها بوصفها أرقاماً ومعادلات.

لكن ربط أبو زيد المكي والمدني وفق ما تقدم، يضعه أمام اجتهاد في القرآنيات يبعده عن مجرّد عمليات الترجيح ما بين الروايات التي مارسها القدماء، وهو اجتهاد يضع معياراً جديداً يرفع الحظر عن تحليل آخر للمكي والمدني، يضعه في خانة جدل القارئ والنص.

ومن هنا ينكر أبو زيد المنهج التلفيقي الذي استخدمه القدماء للجمع بي