يتفق السواد الأعظم من دول العالم على ان الديمقراطية هي النظام الأمثل وقد تبنت دول العالم المتقدّم برمّتها هذا النمط من الحكم وهي تسعى جاهدةً ولا تفوّت فرصةً في محاولة "فرضه" على الدول النامية التي لم تنجح بعد في الوصول الى برّ الأمان المنشود.

ويحدّد الفهم السائد للديمقراطية والتي تعني حرفياً "حكم الشعب" هذه الأخيرة كشكلٍ من أشكال الحكم الذي يشارك فيه جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة وبحريةٍ تامّة، مباشرةً او عبر ممثلين منتخَبين، في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

نظرياً، تقدّم الديمقراطية نفسها كأفضل ما توصلت اليه المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ لكن التطبيق على أرض الواقع يظهر في كثيرٍ من الأحيان وبشكلٍ جليّ شوائبَ كثيرة ومعضلاتٍ شتّى.

قد تكون أولى هذه المعضلات وأبرزها استفادة مجموعاتٍ يمكن تصنيفها بغير الديمقراطية من السبل الديمقراطية للوصول الى الحكم؛ فالتاريخ المعاصر مليءٌ بأمثلةٍ على ذلك. فكم من أحزاب الإسلام السياسي واليمين المسيحي المتطرف وصلت الى الحكم عبر صناديق الاقتراع وهي لا تؤمن أصلاً بالحرية الشخصية  والاختلاف والتنوّع وغيرها من المبادئ التي تشكّل ركائز النظام الديمقراطي.

وقد تكون هذه المشكلة مقدّمةً لمعضلاتٍ اكثر تعقيداً وصعوبةً. فمثلاً، ماذا لو لم يؤمن اكثرية المواطنين في دولةٍ ما بالديمقراطية؟ فهل تُعتبَر خياراتهم "ديمقراطية" لأنهم الأكثرية او غير ديمقراطية لأنها لا تتماشى مع المفاهيم الديمقراطية المتعارف عليها؟ وقد تفيد هنا الإشارة الى احصاءاتٍ قدّمها منتدى الاقتصاد العالمي (valuegraphics,2020) حول القِيَم التي تؤثر على سلوكنا كبشرٍ في مناطق مختلفة من العالم. فقد احتلت القِيَم المتعلقة بالحياة الشخصية المراتب الأولى في كافة أنحاء العالم كالعائلة والعلاقات الشخصية والأمان المادّي. أما بعض القِيَم الأخرى والتي تُعتبر مجتمعيةً أكثر منها شخصية، فقد تفاوتت اهميتها حسب الدراسة بشكلٍ كبير ما بين منطقةٍ من العالم وأخرى ومنها مثلاً الحرية السياسية وحريّة التعبير والتقاليد والدين. وفقاً لهذا التقرير، يمكن لهذه المعلومات الإفادة في الإطار الاقتصادي من خلال إعطاء فكرة عن كيفية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم إلا أنها يمكن أن توظّف على حدٍّ سواء على المستويَين الاجتماعي والسياسي لفهم ميول الشعوب و توقعاتها والأسس التي تبني خياراتِها على أساسها.

فالشعوب العربية مثلاً تضع الدين والتقاليد في مرتبةٍ متقدمةٍ مقارنةً بمجتمعاتٍ أخرى (كالأوروبية على سبيل المثال)، وهذا بالطبع يؤثر بشكلٍ مباشر على خيارات هذه الشعوب الاجتماعية وبالتالي السياسية والتي قد لا تكون ديمقراطية في كثيرٍ من الأحيان بحكم أن الفهم التقليدي للدين قد يتنافى في الكثير من جوانبه مع بعض مظاهر الديمقراطية. فهل يُعتبَر لجوء بعض الأنظمة التي انتخبت "ديمقراطياً" او التي تتمتع بشرعيةٍ شعبية واسعةٍ الى حدٍّ ما الى التدخل في المناهج الدراسية من خلال حذف بعض النظريات مثلاً انتهاكاً سافراً للنظام الديمقراطي أو حقّ طبيعي لأن هذه الأخيرة تمتلك الشرعية المطلوبة؟ فقد تم على سبيل المثال لا الحصر خلال السنوات الأخيرة حذف نظرية داروين للتطور من مناهج دراسية في تركيا واسرائيل ومؤخراً في سوريا ما بعد الثورة تحت حججٍ مختلفة بدءاً من صعوبة فهم التلاميذ لها ووصولاُ الى اعتبارها خاطئة، مع العلم ان النظرية المذكورة تُعتبَر من النظريات المؤسّسة في علم الأحياء ومن أكثرها ثباتاً علمياً باعتمادها على أدلةٍ راسخةٍ وهي من أقلّ النظريات التي تعرّضت للنقد علمياً. (وأقول هنا علمياً لأن المتدينين يرفضونها مبدئياً وعاطفياً دون تقديم أي أدلة). فهل قرار حذف داروين قرار ديمقراطي إن اعتمد على أكثريةٍ تطلب ذلك او لا تمانعه أم أنها انتهاك خطير لحقّ الناس والتلاميذ تحديداً في التعرّف على كل الاتجاهات ومناقشتها وحقّهم في الاطّلاع اللامحدود وحّقهم في اختيار الأفكار التي يتبنوها بحريةٍ ومن دون توجيه؟

كذلك فإن محاولات الدول الكبرى وتدخلاتها و"نصائحها" فيما يتعلّق بنشر الديمقراطية في الدول الأقلّ حظاً تشوبها مغالطاتٌ كبيرة في الكثير من الأحيان ومن ابرزها الدفع في اتجاه حصول بعض المجموعات على حقوقها الديمقراطية كاملةً دون  ذكر مجموعاتٍ أخرى او حتى في تناقضٍ مع مصالح هذه المجموعاتٍ الأخرى التي قد لا تعود بالفائدة الكبيرة على مصالح هذه الدول وبالتالي تتراجع المطالب بحقوقها او حتى تندثر تماماً. وهذا الواقع بحدّ ذاته يضرب مفهوم الديمقراطية الأساسي إذ ان هذه الأخيرة هي كلٌّ لا يتجزأ وأي خللٍ في أيّ من الجوانب يؤدي الى فقدان التوازن العامّ. فعند كل مفترقٍ تغييري في الدول العربية، تتهافت الدول الغربية على المطالبة بالحفاظ على حقوق الأقليات الدينية بشكلٍ أساسي دون التطرق الى أقلياتٍ أخرى قد تعاني من الظلم والإجحاف أكثر بكثير او الأنكى انها قد تكون نفسها ضحيةً لتلك الأقليات التي يتشدقون بالدفاع عن حقوقها. فلماذا تقلّ حقوق المثليين والمثليات ومزدوجي الميل والمتحولين جنسياً واحرار الجنس (كوير) وغيرهم من الأقليات المضطهدة اهميةً عن حقوق الأقليات الدينية مثلاً؟ ولماذا الدفاع بشراسةٍ عن أقلياتٍ تكون في كثير من الأحيان غير ديمقراطية في عدائها لمن يخالفها الرأي فنجد مثلاً المتدينين بأكثرياتهم وأقلياتهم يحجبون الحرية والديمقراطية عن أقليات مجتمع الميم بحجة عدم ملاقاتهم لما يعتقدونه ثوابت دينية؟  أيعود السبب الى العدد فتكون الأقلية الأكثر عدداً أحقّ بالديمقراطية من مثيلاتها الأقلّ عدداً؟ أم أن السبب يعود الى طبيعة هذه الأقلية ومدى تقبُّل أو رفض الأكثرية لها؟ أو قد يتعلّق الموضوع بمصالح الدول الكبرى وما تراه يناسب سياساتها ويشكّل مدخلاً لتدخلاتها المستقبلية؟

كلها أسئلةٌ مشروعةٌ يحقّ لنا كبشرٍ نعيش في مجتمعاتٍ ودولٍ تتوق الى الديمقراطية أن نطرحها ليس من باب رفض هذا النظام السياسي إذ أنه لا يزال برأيي الحلّ الأمثل الذي تقدّمه البشرية لكن بهدف تسليط الضوء على بعض نقاط الضعف التي تشكّل خاصرةً رخوة قد يستغلها المتربصون شراً بالديمقراطية.