الصحيفة الغائبة لرجل الدعاء                                
هي الصحيفة السجادية التي طافت في العلياء حتى دنت منها الرأفة والرحمة والرقة، هي الصحيفة الرائعة عند المسلمين عبر عصورهم، التي استخلصت الشوق والحنين ولهفة الشفيف عند اللقاء، هي من المعالم الروحية العظمى، الغائبة اليوم في حياة المسلمين على وجه العموم، هي الجامعة لأدعية إمامٍ من أئمة المسلمين ـ علي بن الحسين بن علي (ع)، الملقب بزين العابدين، أفقه أهل المدينة، والذي عرف بالعلم والتقوى، هو سراج الحياة وجمال الدين، وحلو الحديث، وطيب الكلام، لمن غيرك هذه الصحيفة التي تطمئن النفس وتنفث الروح آلامها وآهاتها، في هذا الزمن الرديء والمدى الحزين، الذي أهمل فيه خلق كثير،  كما أهمل الكثير من تراث أئمتنا الأطهار،ومنها الصحيفة السجادية المشرقة الرائعة التي تضيئ مصابيح النائمين طوعاً، فالكثير من عموم المسلمين وبالأخص عموم الشيعة من الذين يحفظون عن ظهر قلبٍ ما هبَّ ودبَّ من الخزعبلات والقصص من السخافات والخرافات، والترهات البريئة من الحقيقة، ولكنه ـ هذا العموم ـ لا يعير كتاب الله عز وجل اهتماماً كبيراً ينير له درب الحياة، ولكنه يعلم كثيراً من طرق اللطم والتطبير، ولا يحفظ دعاءً واحداً من صحيفة الإمام زين العابدين (ع)، ولكنه لا يخلو الأمر من استثناء، وقد يكون هذا الاستثناء نادراً، ويكون رقماً شاذاً في سوادٍ مهيمن.


 عندما تقترب من الصحيفة السجادية تستسقي المعاني والمفردات من شخصٍ يملك روحاً سامية، ومن تجربته التي تسير بعناية ملكوت السماوات في الأرض، وينظر من قلب الرحمة قبل عين الرأفة إلى الحياة والإنسان والحيوان وحتى الجماد، لأنَّ النفس البشرية تحتاج إلى تهذيب وإلى معلِّم يعلمها الأخلاق والتربية، لأنها تتغيَّر وتتبدَّل إذا تغيَّرت الأحوال والظروف، فالتجارب دلَّت على الكثيرين من الذين كانوا مثالاً في التواضع ودماثة في الخُلُق عندما كانوا فقراء معوزين، ثم تراهم أخبث من الأفاعي، وأضر من الحشرات السامة حينما صاروا من ذوي المناصب والثراء، كان اللؤم كميناً في أنفسهم يغطِّيه الضعف ويخيفه العجز، ولما ملكوا القوة من أنفسهم رجعوا إلى حقيقتهم وظهر الدنس بأوضح معانيه، تماماً كما يجري اليوم من الذين يظهرون الولاء للشعب، ومن أجل الشعب، وعندما يحصلون على كراسيهم يمسحون وعودهم وكلامهم تحت أحذيتهم.

هذا عين ما حذَّر منه الإمام زين العابدين (ع) بقوله: (إذا رأيتم الرجل قد حَسُنَ سَمتُهُ وهَديُهُ، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يَغُرَّنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا، وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخاُ ـ فخالها ـ فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه، وإن وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شهواء قبيحة فيأتي منها محرما..)   إنَّ هذا الإمام قد جسَّد في نفسه الإمتلاء بالإيمان، والتشبُّع بالإسلام، فكان علمه وتقواه ودعاؤه هو السلاح الذي يواجه الشر والمحنة، فقال: ( اللهم اكسر شهوتي عن كلِّ مُحرَّم، وازوِ حرصي عن كل مأثم، وامنعني عن أذى كل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، اللهم وأيما عبدٍ نال مني ما حظرت عليه، وانتهك منِّي ما حجرت عليه، فمضى بظلامتي ميّتاً، أو حصلت لي قِبَلَه حيّاً، فاغفر له ما ألمَّ به منِّي، واعفُ له عمَّا أدبر به عنِّي، ولا تقِفه على ما ارتكب فيَّ، ولا تكشفه عمَّا اكتسب بيَّ.... وعوِّضني من عفوي عنهم عفوك، ومن دعائي لهم رحتمك، حتى يسعد كلُّ واحدٍ منَّا بفضلك، وينجو كلٌّ منَّا بمنِّك...) أليس هذا الدعاء منهجاً في التربية التي نحتاجها اليوم وما يجري علينا من مظالم وويلات ومآسي وعذابات؟ إنها رسالة تشمل جلَّ نواحي حياة الإنسان في شؤون الدنيا والدين، ليسمو هذا الإنسان على كثافة المادَّة التي خنقتنا وكتمت أنفاسنا، وما يتغلغل في الروح من جشع وطمع وبغض وحقد وعدوان.


 إنَّ هذه الصحيفة لهي سجَّادية لحياةٍ سامية، وبدون مبالغة لهي بمرتبة منهج متكامل للتربية، وميثاقاً لحقوق الإنسان، ومركباً جميلاً هنيئاً للقاء بالخالق الرحيم، كلُّ دعاءٍ منها حديقة من حدائق الدنيا وحدائق الجنة، وكل كلمة زهرة من أزاهيرها، ووردة من رياحين الدنيا نقدمها لنلتمس منها عبق الحياة والأخلاق والإحترام، ولكن ما عساها تفعل وهي ضائعة وممزقة بين إهمال هذا، وانشغال ذاك باللهو واللغو والزبد، وأما الزبد فيذهبُ جُفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.