آية قرآنية تستوقف الكثيرين من الذين لا يرون فيها معانٍ بلاغية وفهومات عميقة، إذ كيف يأمر القرآن الكريم لمالك البيت من أن يأكل من بيته، فيروحون قائلين: أين المعنى؟ وهل يحتاج الإنسان إلى إذن للدخول إلى بيته؟ وهل هناك مانع من أن يأكل في بيته؟ لا غرابة للذين لا يملكون قراءات تاريخية حول هذه المعاني، لكن الغريب من الذين يملكون أدوات معرفية تاريخية ومع ذلك يتماشون معهم؟. يقول الله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه، أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً....) ـ النور ـ 61.

 

 نرى على أكثر المواقع الالكترونية الإلحادية أو اللادينية إشكاليات وفضفضات فارغة بلا جدوى، وبرامج حول (آية وتعليق) التي هي نوع من الاستهزاء والإزدراء والسخرية!.هذا فهم ينتمي إلى مجال تداولي ثقافي إنسياقي، وينتمي أيضاً إلى عقولهم اليوم بحيث يفهمون النص وفق معانيهم، فبدل من أن يذهبوا بعقولهم إلى زمن النص ليعرفوا أسباب نزوله، وحينها يمكن أن نستخرج فهومات تتماشى وعقول اليوم، ولهذا لا يكون الرجل عالماً وفقيهاً كل العلم والفقه حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة، فالآية المتقدمة ومع آية أخرى في سورة البقرة ـ 189(...وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنَّ البرَّ مَن اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها..)

 

 فالقراءة لتاريخ مكة تشير إلى أنه يوجد تعدد وتنوُّع مذهبي، فالمجتمع المكي خليط بين الملل والطوائف والمذاهب، وهي عبارة عن الحُمُس والطلس والحِلِي ـ كما هو اليوم تماماً ـ وكلهم يمارسون الطقوس والشعائر الدينية، ومنها شعيرة الحج، ولها شروط وأحكام وتكاليف، كما نحن اليوم عندما نقوم بشعيرة الحج مثلاً يَحرم علينا الطيب والنساء وغيرها، فكذلك هم كانت لهم طقوس ومحرمات، ومن جملتها عندما يخرجون من بيوتهم لأداء شعيرة الحج، فكانوا يعتبرون العودة إلى بيوتهم أو بيوت الأباء والأمهات وغيرها من الأصناف المذكورة في الآية من سورة النور، من المحرمات، فلا يدخلونها من الأبواب، بل يدخلون من ظهورها ـ أي من الشباك ـ وهذا ما تؤيده الآية المتقدمة ـ 189 من سورة البقرة ـ فالقرآن يريد أن يلغي تلك العادات والمحرمات عندهم ويخفف عنهم هذه الأثقال والأعباء في التكاليف التي كانت سائدة في زمنهم، فنقول لهؤلاء وأمثالهم من الإزدرائين عليكم أن تقرؤوا الحيثيات التاريخية في زمن النص ـ وأزيدكم من الشعر بيتاً ـ غياب الدلالة الصوتية للنص القرآني!؟ وثانياً: (...قد يُستفادُ منها هو أنَّ ما يملكه الإنسان ليس ملكاً خالصاً له، وإنما يتعلَّق بهذا الملك حقوق لله تعالى، وللوالدين والأقربين والفقراء والمساكين، وأبناء السبيل.. والمجاهدين في سبيل الله.. وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت، أن يأكلوا من بيوتهم .وهذا إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا وحدهم أصحابها، والمستأثرين بها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونها فيما في هذه البيوت..التفسير القرآني للقرآن ـ ص 1313 ـ عبد الكريم الخطيب). فهي إذاً، ليست ملكية خاصة وإنما ملكية انتفاع، وهذا ما أشار إليه المفكر الكويتي ـ محمد سلمان غانم ـ (.. بل إنَّ الآية تبيح مبدأ تأميم البيوت إذا اقتضى الأمر ذلك. كأن تكون فارغة، في الوقت الذي يبحث آخرون عن مأوى متواضع..)

 

 معنى التأميم: هو نقل ملكية قطاع معين إلى ملكية الدولة أي تحويله إلى القطاع العام. وهي مرحلة تمر بها الدولة المستقلة عادة في إطار عملية نقل الملكية وإرساء قواعد السيادة بحيث تقوم الدولة بإرجاع ملكية ما يراد تأميمه إلى نفسها.. ثم يضيف أمراً آخراً: (... يتعلق بظروف وأحوال الناس الذين يجتمعون في المناسبات، على فرح أو ترح. أو الزيارات العادية وكثيراً ما يصحب تلك الدعوات إلى الطعام بين الأهل والأقرباء. أو الزملاء والأصدقاء، سواء في العمل أو في البيوت أو مؤسسات التربية والتعليم.. الخ.... وبين الأقرباء محارم وغير محارم، فالشخص عندما يزور العم أو الخال فإنه سيختلط بأبنائهم ذكوراً وإناثاً، ومحارم وغير محارم. غير أنَّ الشيء البارز هو تجمع الأصدقاء، وهم غير الأهل، (أو صديقكم ـ النورـ آية 61) أي أصدقائكم، وهو يقع على الواحد والجمع، وعلى الذكر والأنثى. 

 

ويأتي النص الأخير والواضح في إباحة الاختلاط قوله تعالى:(ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً ـ النور ـ آية 61) أي فرادى أو جماعى. والحقيقة أنَّ الناس الذين يمكن أن يحتك ويلتقي معهم الفرد أو الشخص، إما أن يكونوا أهلاً وأقرباء، أو زملاء، وأصدقاء سواء في العمل أو خارجه. وقد جاءت الكلمة في الآية (جميعاً) قبل (أشتاتاً) لأنه هو الشيء العادي والطبيعي كما أن الجلوس على مائدة واحدة أبرز وأشد صور الاختلاط بين الجنسين..) إنَّ في هذه الآية الكريمة أكثر من قضية وموضوع، وسلطنا الضوء من خلالها على أمرين مهمين، الأمر الأول: التأميم ، والثاني جواز الاختلاط، وهذه معضلة اجتماعية عامة، ولهذا لم يترك القرآن الكريم هذه القضية، بل نرى في ذلك أنه نص عليها بالحرف، باعتبارها ضرورة اجتماعية وتربوية وتعليمية وجهادية، وهي تصقل الشخصية وتكسبها المناعة من الوقوع في الرذيلة سواء للمرأة أو الرجل على حدٍّ سواء، هذا بالنسبة لجواز الاختلاط. وأما قضية التأميم، فهي من الأمور المتعلقة بصلاحية الحاكم ومقتضيات الحاجة الضرورية.

 

 وهكذا نرى في القرآن الكريم القيم والعواطف الانسانية الشريفة الطاهرة. (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)..