منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين أول عام 2019 ما زال لبنان يدور في حلقة سياسية واقتصادية مفرغة، حيث تفككت مؤسسات الدولة الواحدة تلوَ الأخرى، بدءًا من رئاسة الجمهورية والحكومة والقضاء لتصل اليوم الى حالة اهتراء في السلطة التشريعية، وذلك على ضوء عجز المجلس النيابي عن الالتئام سواء لانتخاب رئيس للجمهورية أو لتشريع الضرورة. 


في الوقت نفسه، فان موظفي الإدارات العامة، والهيئات التعليمية هم في اضراب مفتوح. ويبدو بأنهم مستمرون في اضرابهم في ظل قصور مجلس الوزراء عن التجاوب مع مطالبهم لزيادة رواتبهم ومخصصاتهم لتتجاوب مع متطلبات حياتهم اليومية في ظل الانهيار الدراماتيكي لقيمة النقد الوطني وجنون الاسعار للمواد الغذائية وللمحروقات على حد سواء، وبالفعل فإن الأزمة الاقتصادية والنقدية التي بدت متباطئة في السنوات الماضية قد أخذت مساراً متسارعاً منذ بداية هذه السنة، حيث فقدت الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها خلال فترة شهرين ونصف، ما تسبب في ارتفاع هائل في اسعار السلع، في اقتصاد يعتمد على الاستيراد. وما يزيد في حالة بؤس المواطنين التعامل المجحف للدولة وللمصرف المركزي وللمصارف مع مدخراتهم المحتجزة في المصارف منذ بداية الأزمة عام 2019 ، ثلاث سنوات ونيّف مضت على بدء الانهيار المالي والنقدي، وأهل الحكم ما زالوا يناقشون جنس الملائكة ذكوراً أم أناثاً،. ثلاثون شهراً مرت على كارثة انفجار مرفأ بيروت، وأهالي الضحايا يتظاهرون في الشوارع مطالبين بكشف الحقيقة، لمعرفة خلفيات وفاة أولادهم.


ليس مستغرباً أن ينزلق البلد إلى هاوية الفوضى العارمة في ظل هذا العجز الفادح للسلطة، ليس في إطلاق ورشة الإنقاذ وحسب، بل في اتخاذ التدابير الموقتة للحد من الإنحدارات المدمرة، وتخفيف معاناة الناس، وهذا أضعف الإيمان

.
الانهيارات تتنقل من قطاع إلى آخر، والعملة الوطنية فقدت قيمتها الشرائية والسيادية بعدما قرروا التسعير بالدولار، مُعلنين الذهاب إلى دولرة الحياة المعيشية للناس، وكأن رواتب الموظفين والعمال تُدفع بالعملة الأميركية وليس بالعملة الوطنية 


في ظل المأزق السياسي المستمر، تابع لبنان سياساته الترقيعية الى ان تم استنزاف كل احتياطي العملة الاجنبية في مصرف لبنان، والذي بدأ خفض مستوى التحويلات الضرورية بالدولار. وهذا ما انعكس في نهاية الامر في خفض استيراد الادوية والمحروقات، وهذا ما ادى الى ازمة تموينية خانقة بالمحروقات وبانقطاع شبه كلي للتيار الكهربائي . 


وأمام الإنسداد السياسي الذي يعطل الإستحقاق الرئاسي، ويؤخر ولادة حكومة كاملة الصلاحيات الدستورية أصبحت الأجواء مهيأة للتفاعل مع أي حراك يشكل بارقة أمل لتحريك مياه الأزمة الآسنة، عله يفتح أبواب الحلول المستعصية

.
هذه المعطيات الدرامية جعلت من البلد أرضاً خصبة للتدخلات الخارجية، وساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بأدوات محلية تعاني أصلاً من حالات تأزم مزمن، وتحاول الهروب منها إلى الأمام، لأنها أعجز من مواجهتها وإيجاد المعالجات اللازمة لها. وهذا ما ظهرت بوادره في الهجمات النارية على المصارف، وفي إقفال الطرقات في العديد من المناطق .


إعتبر أهل السلطة أن حركة الشارع المفاجئة قد تجر البلد إلى فوضى عارمة، فسارعوا إلى تطويقها ولملمتها، قبل أن تخرج عن السيطرة، وأطلقوا التهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور في حال تكررت حركة الشارع التي تُنذر بالفوضى الشاملة. وهذا ما أكده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير،وتدرك قيادة حزب الله جيداً أن القمع واستخدام القوة لإخماد غضب الناس ضد السلطة المتواطئة الفاسدة والفاشلة ليس هو الحل، بل يزيد المشكلة تعقيداً، وقد يؤدي إلى تداعيات أخطر على الإستقرار والسلم الأهلي، ولا يساعد على التوصل إلى شاطئ المعالجات الهادئة، الجدية والقادرة على وضع خطة متكاملة لمسار الإصلاح والإنقاذ ، ولكن هذا الوضع الهش يفرض، في الوقت نفسه، على الأطراف السياسية والحزبية، إعادة النظر بحساباتها الداخلية، وإنعكاساتها السلبية في إستمرار التأزم الراهن، وإتخاذ ما يلزم من خطوات تُقرّب المسافات مع الآخر، وتُمهد للتوصل إلى التسوية المنشودة .


ختاماً الوضع اللبناني أصبح من الهشاشة لم يعد معها قادراً على تحمّل مغامرة أمنية، أو صدمة سياسية جديدة، بعدما فَقَد كل عناصر الصمود، وأصبح أي إهتزاز داخلي يشكل خطراً داهماً على ما تبقى من مقومات الدولة والوطن، لبنان الغارق في بحور من الأزمات والكوارث الإقتصادية، ويُعاني من عزلة غير مسبوقة، عربياً ودولياً وتنطبق عليه مواصفات الدولة الفاشلة، لبنان اليوم على عتبة الفوضى العارمة… فهل تقوم القيادات السياسية بمسؤولياتها الوطنية، وتتجاوب مع مناشدات المراجع الروحية في تسريع خطى انتخاب الرئيس العتيد، قبل السقوط في دوامة الفوضى الشاملة .