مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 تشكَّلت الملامح الأولى للجيوبوليتيك الشيعي ، والذي استند إلى طبيعة النظام الثيوقراطي الديني بقيادة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله الخميني، ويمكن القول في هذا الإطار بأن الثورة الإيرانية من جهة، ونشوء حزب الله اللبناني من جهة أخرى، قد وضعا الجغرافيا السياسية الشيعية في صدارة المشهد السياسي الإقليمي والدولي، كما أعطت الخطابات الدينية الثورية التي كان يرددها الخميني، والشعارات السياسية التي كان يرفعها قادة الحرس الثوري، قوة دفع كبيرة للمجتمعات الشيعية في العالم الإسلامي لتستشعر وجودها السياسي، والهدف من وراء ذلك هو تشكيل حركة شيعية عابرة للحدود الوطنية مرتبطة بدولة القلب المذهبي إيران. 


بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، درجت إيران على تسخير مقدراتها الوطنية لتحقيق وجود خارطة شيعية متمايزة عن الخارطة السنية في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من النجاحات الكبرى التي حققتها الاستراتيجية الإيرانية في جغرافيا ممتدة من أفغانستان حتى شمال إفريقيا، وذلك بفعل محركات فعلها الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي والأيديولوجي، إلا أنها واجهت تحديات كبرى عطَّلت الجيوبوليتيك الشيعي بعض الشيء، والتي يأتي في مقدمتها الدور الإيراني في تصاعد حدة الصراعات الطائفية والمذهبية والمنافسة الجيوبوليتيكية لإيران في العالم الإسلامي، وعلى الرغم من أن المشروع السياسي الإيراني هو مشروع استراتيجي من حيث الشكل، إلا أن جوهره هو مشروع عقائدي يهدف إلى احتواء العالم الإسلامي بدوله ومجتمعاته، سعيًا لبناء المجال الحيوي الإيراني.


وهذا ما ادى الى احداث متغيرات في كل من لبنان والعراق ولكن في اتجاهات متعاكسة، تغيرت ضد حقائق الجيوبوليتيك في كلا البلدين، فلبنان الذي التزم منذ الاستقلال سياسة اللا انحياز وجسر التلاقي بين الشرق والغرب كما بين العرب، وقع منذ سيطرة الفصائل الفلسطينية تحت عنوان المقاومة لتحرير فلسطين ثم الحرب الاهلية وصراع_المحاور، وهو أُجبر بالقوة على الانتقال من سياسة مع العرب إذا اتفقوا على موقف وعلى الحياد إذا اختلفوا إلى سياسة الساحة المفتوحة لتصفية الحسابات العربية والإقليمية والدولية وبعد خروج سوريا التي انفردت بحكم لبنان جرى أخذه بقوة حزب الله إلى محور المقاومة الذي تقوده إيران على طريق مشروع إقليمي واسع الطموح.


العراق الذي كان يشكل فيما مضى من خلال البوابة الشرقية حاجز الصد والحارس للأمة العربية وقع بعد الغزو الأميركي تحت الهيمنة الإيرانية، التي  كرست العصبية المذهبية وأيديولوجيا ولاية الفقيه وسلاح الميليشيات.كما ان الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن الذي كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ثم نائباً لباراك أوباما اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول، كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب، وكان الرأي الشائع في لبنان يومها هو أن تقسيم العراق بداية تقسيم لبنان، لكن ما حدث هو لبننة العراق التي ادعى السفير الأميركي فيه ريان كروكر أنه ضدها، فالسلطة جرى تقاسمها بدفع من الحاكم الأميركي بول بريمر والنظام الإيراني بين الطوائف والإثنيات كما هو الحال في لبنان.


أميركا خففت من تواجدها العسكري، باستثناء قوة غير قتالية، وإيران أسست ميليشيات مرتبطة بفيلق القدس التابع للحرس الثوري، وبدأت تفاخر بأنها تحكم بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.


اليوم يبدو لبنان رهين المحور الإيراني إلى حد أنه عاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية يوحد الداخل ويضمن ثقة العرب والعالم في البلد، لأن حزب الله يصر على فرض رئيس موال له، أما العراق فإنه بدأ مع رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي الانفتاح على العرب، ولعب دور الوسيط في حوار بين الرياض وطهران مع البعد عن المحاور الإقليمية والدولية، ورئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني يكمل الدور مع أن من جاء به هو الإطار التنسيقي الذي توالي فصائله في معظمها النظام الإيراني وتصر على إخراج أميركا نهائياً من العراق.


السوداني يعلن بوضوح أن العراق لا يزال في حاجة إلى وجود عسكري أميركي في إطار الحوار الاستراتيجي، ويقول إن قدر العراق عربي ونرفض أن يكون ساحة لتصفية الحسابات أو أن يكون مع طرف ضد آخر، وهو مصر على متابعة المساعي لمعاودة الحوار السعودي الإيراني والرهان على مؤتمرات "بغداد 1" ثم "بغداد 2" في الأردن، على الطريق إلى بغداد 3.


أما لبنان فإنه محكوم بأن يمشي عكس السير في العالم العربي، "فالبلد الصغير الذي من الحكمة صيانته من العنف، يراد له اليوم أن يكون الجبهة الأمامية الوحيدة المفتوحة تحت شعار تحرير فلسطين. كيف
بالحرب لإزالة إسرائيل التي صارت في سلام مع سبعة بلدان عربية من دون أن توافق على حل الدولتين الذي يسمح بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ضمن حدود الرابع من حزيران 1967، فضلاً عن أن لبنان لحق بالبلدان المرتبطة بإيران لجهة وقوعه في أزمة مالية واقتصادية واجتماعية خطرة، بحيث انهارت العملات الوطنية.


العراق الملبنن الضعيف بدأ الخروج من الهيمنة الإيرانية، وهو الشعار الذي رفعه ثوار تشرين ليعود كما كان العراق العربي القوي، ولبنان العربي يقاتل لئلا يصبح لبنان الإيراني بالكامل، والمنطقة كلها تشهد تحولات عميقة وسريعة.
ختاماً من هو جزء من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يعمل بطبائع الأمور ضمن استراتيجية الملالي التي تتمثل في إزالة كل العوائق على الطريق أمام ولاية الفقيه. والمعادلة الحالية هي أميركا خارج المنطقة. وإسرائيل هدف للرماية. وجمهورية الملالي فوق. والعرب تحت.


من الصعب العثور على معادلة مستحيلة أكثر من هذه. فلا العالم العربي قطعة زبدة تقطعها سكين طهران. ولا العالم مستسلم لشعار الملالي استعدوا لنحكم العالم. لا هضم لبنان ممكن لأي طرف مهما يكُن قوياً. ولا الرهان على تصحيح التاريخ لإقامة نظام ثيوقراطي في القرن الحادي والعشرين هو أفضل مشروع للمستقبل. وأغرب شعار هو: الموت في الحرب أشرف من الموت جوعاً، بدل العمل للتعافي الاقتصادي. كأن جهنم الحرب هي البديل من جهنم البؤس.