إنَّ الرؤية التي تعتبر "النص" عالماً من النظم والأحكام والمقاصد، فهي تفرض على قائلها مع الآلة اللغوية، أن يستخدم أدوات تفكيرية وعقلية تكون أوسع من العلاقة الرأسية بين اللفظ والمعنى، وبالتالي عندما نقرأ النص القرآني، فمن أهم المعاني التي تطمئن إليها من تكريس النظرة الجزئية المفتتة "للنص" وتستخرج منه المعنى، هي (السياق، أو قرينة السياق)، فمن هنا نتفهم العلاقة والاحتضان المتبادل بين علوم الفقه والأصول، وبين الدراسات اللغوية، فنرى قبل أن تولد هذه المنظومة والمعروفة (الأدلة الأربعة ـ الكتاب ـ السنة الشريفة ـ الإجماع والعقل، والتي نظَّر لها الإمام الشافعي ـ 150ـ )، قبل هذا التأسيس كان ما يعرف بعلوم أو بعلم (الأشباه والنظائر في القرآن الكريم) ككتاب (مقاتل بن سليمان ـ 150ه) وهي عبارة عن دراسات توظيفية في دلالة الألفاظ والجمل في القرآن الكريم، وأيضاً للقارئ هارون بن موسى ـ 170ه ـ وكتاب (التصاريف ـ يحيى بن سلام ـ 200ه ـ  وابن هلال العسكري ـ 400ه ـ وكتاب وجوه القرآن للنيسابوري ـ 430ه ـ وابن الجوزي 597ه ـ والدامغاني ـ 564ه ـ ) فهذا العلم يُوظَّف في دلالة الألفاظ في لغة القرآن الكريم. لنرى معنى (الفساد) في القرآن الكريم:


لقد ورد هذا اللفظ كثيراً في القرآن الكريم، وسنحاول أن نذكر لكل معنى آية من القرآن الكريم، لأن هذا اللفظ ورد على ستة أوجه:


 الأول: يعني المعاصي ـ ذلك قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ـ البقرة ـ 11) يقول لا تفعلوا فيها المعاصي.. ونظيرها في الأعراف:( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) يقول لا تعملوا فيها المعاصي...


 الثاني: الفساد، يعني: الهلاك: فذلك قوله تعالى في بني إسرائيل ـ الإسراء ـ 4 ـ (لتُفسدُنَّ في الأرض مرَّتين وَلَتَعلُنَّ عُلُواً كبيراً) يعني : لتهلكن مرتين. ونظيرها في سورة الأنبياء ـ 22: (لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لَفَسَدَتَا) يعني لهلكتا.

وأيضاً في سورة المؤمنين ـ 71: (ولو اتبع الحقُ أهواءهم لَفَسَدَتِ السماوات والأرض) يعني: لهلكت. 


الوجه الثالث: الفساد، يعني: القحط والمطر، فذلك قوله تعالى في سورة الروم ـ 41: (ظَهَرَ الفسادُ في البَرِّ والبَحرِ) يعني: البادية والبحر، يعني: قحط المطر وقلة النبات في البر، يعني: البادية، والبحر يعني به: العمران والريف. 


الوجه الرابع: الفساد، يعني: القتل: فذلك قوله تعالى في سورة الأعراف ـ 127:( أَتَذَرُ موسى وقومه ليُفسِدُوا في الأرض) يعني: ليقتلوا أبناء مصر. ونظيرها في سورة غافر ـ 27:( إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) يقول: يقتل أبناءهم، هذا قول فرعون. وفي سورة الكهف ـ 94:( إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) يعني: يقتلون الناس، وقد يكون معنى يأجوج ومأجوج طبول الحرب كما جرت عند العرب.


الوجه الخامس: الفساد، يعني الفساد بعينه: فذلك قوله تعالى في سورة البقرة ـ 205:( لِيُفسِدَ فيها) يعني: الفساد بعينه، (ويُهلك الحرث والنسل) يعني: الفساد بعينه، كل شيء. ونظيرها في سورة النمل ـ 34:( إذا دخلوا قريةً أفسدوها) يعني: خرَّبوها. 

الوجه السادس : الفساد، يعني: السحر: فذلك قوله تعالى في سورة يونس ـ 81:( إنَّ الله لا يُصلحُ عملَ المفسدين) يعني: فعل السحرة..