أولاً: الرئيس القوي...


كان الرئيس الراحل الشهيد بشير الجميّل، يطمح أن يكون أول رئيس للجمهورية قوي، تطأ قدماه عتبة القصر الجمهوري في خضم الحرب الأهلية التي اندلعت عام ١٩٧٥، قبل أن يضع اتفاق الطائف حدّاً لها عام ١٩٨٩، فبشير الجميّل الذي "استقوى" بدايةً بالدبابات الإسرائيلية عام ١٩٨٢، كان يبدو قويّاً بما فيه الكفاية داخلياً، مع فائض قوة في بعض الأحيان، وقد نمّ خطاب القسَم، الذي لم يُتلَ في البرلمان، بل نُشرَ بعد استشهاده عن ذلك، وهو يشبه البيان رقم واحد الذي يتلوه الإنقلابيون، فقد رأى بشير الجميّل نفسه "منتصراً" في حرب، أكثر منه فائزاً في انتخابات رئاسية، حسب تعبير السياسي الكاتب فواز طرابلسي، لذا لم يجد نفسه مجبراً على شكر النواب الذين انتخبوه، بل عليهم أن يستعدوا لمساعدته على الحكم، ولِطمأنة الطوائف قال: كل الجماعات "الحضارية" يجب أن تشعر بأنّها مشاركة في الحكم، طالما هي في ظلّ رئاسته، وكان بشير الجميّل يرى (دائماً في خطاب القسم) أنّ لبنان ليس بلداً مسيحيّاً، بل هو وطن المسيحيين والمسلمين اللبنانيين، وليس(بالتعريف) بلداً عربياً، بل يُعرف بانتمائه "المشرقي" وصلاته العربية، وهذا نكوص عن ميثاق عام ١٩٤٣، أمّا الدولة فهي كلٌّ متكامل، لا تجوز معارضة شرعيتها، أو معارضة أي مؤسسة من مؤسساتها، أو أي جهاز من أجهزتها الإدارية والأمنية والقضائية، ويروي المقربون منه أنّه كان ينوي تكليف السيد سليمان العلي تشكيل اول حكومة في عهده، وهذا يؤشر أنّ من يحكم لبنان الجديد هم المسيحيون المنتصرون، مع عُتاة المحافظين من وجهاء المسلمين السياسيين( ذُكر أنّ كاتب خطاب القسم هو سجعان قزي، وكان مستشاراً مُقرباً من بشير الجميّل، النص الكامل للخطاب في جريدة النهار، عدد ١٥ أيلول عام ١٩٩٢).


دعا بشير الجميّل كافة القوى المسلحة للإنسحاب من الأراضي اللبنانية، وإخلائها للقوى العسكرية الشرعية، وكان يرى أنّ ما جرى في لبنان ليس حرباً أهلية، بل هي حرب ضد لبنان، وأنّ الأديان التوحيدية تتصارع في المنطقة، ولبنان هو البلد الوحيد "المُتمرد" الذي يبتعد عن الإسلام واليهودية، الأولى تسعى لإعادتنا إلى أيام الخلافة، والثانية إلى أيام الأنبياء، ويستشهد بقول والده الراحل الشيخ بيار الجميّل: الشرق لن يكون شرقاً دون مسيحيّي لبنان، وفي مجال العلاقات الدولية، لبنان في رؤية بشير الجميّل هو جزء من العالم الحر، يسعى لأن يكون "شريكاً" لذلك العالم، لا ضحية له، لم يعش بشير لِيُنفذ شيئاً من برنامجه، فسقط شهيداً تحت الركام عشية الرابع عشر من أيلول عام ١٩٨٢، أمّا الرئيس الثاني الذي كان يطمح أن يكون مستقلاً عن إرادة الوصاية السورية على لبنان، فهو الشهيد رينيه معوض، الذي قضى بتفجير سيارة مُلغمة يوم عيد الاستقلال، ولم يتمكن من دخول قصر بعبدا، حيث كان قد احتله الجنرال عون، وحوّله إلى قصر الشعب.


ثانياً: الرئيس مهيض الجناح...


دخل القصر الجمهوري في بعبدا بعد استشهاد الرئيس معوض الرئيس الراحل الياس الهراوي مهيض الجناح، تحت إرادة الوصاية السورية ورضاها، وجاء بعده الرئيس إميل لحود، الذي سرعان ما تحول إلى يدٍ طيّعة في يد نظام الوصاية السورية، وما لبث أن وقع بين أحضان حزب الله الممتثل للإرادة السورية، وجاء بعده الرئيس ميشال سليمان بعد المساومة التاريخية في الدوحة عاصمة قطر عام ٢٠٠٨، ليشهد لبنان بعد انتهاء ولايته عام ٢٠١٤ شغوراً رئاسياً لمدة ثلاثين شهراً، ليملأ الفراغ الرئاسي الجنرال ميشال عون( الذي كان يُفترض به أن يستشهد على درج قصر بعبدا عام ١٩٩٠)، وذلك بعد رضوخه لإرادة حزب الله، والتي ترافقت مع تسويات مشبوهة مع القوات اللبنانية من جهة، ومع الرئيس سعد الحريري من جهة أخرى، ليدخل قصر بعبدا مهيض الجناح، ضعيفاً على كافة الصُعد، ومن ثمّ يجنح بالبلاد نحو الإنهيار الشامل والدمار الذي طال معظم مؤسسات الدولة، لِيُخلي القصر الجمهوري منذ أكثر من شهرين بعد انتهاء ولايته الرئاسية،  وتدخل البلاد في شغور رئاسي جديد، بانتظار رئيس قوي علّه يتمكن من دخول القصر قبل استشهاده، أو يدخله رئيس آخر يكون مهيض الجناح، لا حول له ولا قوة.