تمهيد.."معلّم" الحزب الواحد... "المعلم" هنا لا يمُتّ بصلة للمعلم الأول أرسطو اليوناني، أو للمعلم الثاني الفارابي عند العرب، أو المعلم الذي رفعه أمير الشعراء أحمد شوقي إلى مصاف الرُسُل، عندما قال: كاد المعلم أن يكون رسولا، وهو بالطبع ليس المعلم الذي سخر منه الجاحظ، أو الذي نفر من سلوكه فقهاء الإسلام المبكّر (لتقاضيه الأجر على تعليم القرآن)، أمّا المعلم الذي سنتناول خصائصه هنا، فهو "المعلم" الذي أفرزته أنظمة الحزب الواحد، والتي اعتلت أرائك السلطة بالإنقلابات العسكرية، وحذا حذوه معظم قادة الميليشيات التي ولّدتها تلك الأنظمة. أولاً: المعلم العسكري... بفضل الإنقلاب العسكري يعتلي القائد-الطاغية سدّة الرئاسة الأولى، ويمارس طغيانه وديكتاتوريته بالظهور بالزيّ العسكري، ومن أبرز هؤلاء القادة العسكريين كان معمر القذافي في ليبيا، وحافظ الأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق، وعلي عبدالله صالح في اليمن، وهؤلاء القادة مارسوا دور "المعلم" بالخُطب والمحاضرات والتعليمات، ورفع القبضات، دون أن ننسى الإعتقالات والإعدامات وكمّ الأفواه، وذلك مُترافقاً مع اكتساح صناديق الإقتراع بنسبة ٩٩ بالمائة الشهيرة، واعتلاء أكتاف الجماهير، وعلى منوال هؤلاء القادة نسج "معلمون صغار"، أي أدنى رتبة، فراحوا يتقمصون شخصية معلميهم، وتقليدهم بممارسة العنف والبلطجة، وبرع في هذا الميدان ضباط المخابرات، وضباط الأمن العام والسياسة، كان المعلم-الضابط، وما يزال، يمتلك صلاحيات توقيف واعتقال كل من يراه مُشتبهاً بشُبهة عامة أو خاصة، ولربما قام بتصفيته جسدياً، بعد أن يُنزل به أشد أنواع التعذيب والعقاب، مع الإحتفاظ بحق إطلاق سراحه لقاء فِديةٍ أو رشوة، أمّا إذا حامت حول المعتقل شبهة معارضة النظام، فتهمة العمالة للعدو الإسرائيلي جاهزة، مع ما يستتبعها من مصائب وأهوال. ثانياُ: المعلم "المدني"... وقد يكون "المعلم" مدنيّاً، أي برتبة وزير أو نائب، أو أمين عام حزب، أو نائبه، أو مستشاره السياسي والأمني، أو حتى يمكن أن يكون رئيس مجلس النواب أو الوزراء، وحتى يستحق "معلميّته" لا بدّ له من مقرٍّ رحب، تحيط به مبانٍ مخصّصة للمرافقين والحاشية والحُرّاس، وللإعتقال عند الحاجة، وهكذا يبسط المعلم سلطانه على مُشايعيه من أبناء الطائفة أو أعضاء الحزب والعشيرة والقبيلة، ولربما مدّ سلطانه إلى سائر المواطنين الغافلين، والمعلم يدافع عن حياضه أوقات السلم، ولا يتوانى عن خوض الحروب الأهلية عند اللزوم، حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها، كان سهلاً عليه الإنخراط في المعارك الإنتخابية، والدخول في التشكيلة الحكومية، وذلك دون التخلي عن خصائص "المعلم" التي قادته إلى مقامه الرفيع. ثالثاً: إدمان عبادة المعلم... لطول التحاق المواطنين والأتباع والمناصرين بركب المعلم، يعتاد جمهورٌ كبير منهم على عبادته، وربما الإدمان على عبادته، وإطلاق صفات التعظيم والتبجيل له، حتى يرسخ في أذهان عوام الناس، وربما خواصّهم، بأن لا حياة ولا عيش ولا كرامة، ولا حاضر ولا مستقبل في حال غياب المعلم-الزعيم، لذا هم يتضرعون لله بأن يُطيل بقاءه، وينشرون صوره المهيبة في الشوارع والساحات العامة، وفوق رؤوسهم في المنازل وأماكن العمل، ويطلقون العنان لخيالهم، ويبتدعون الشعارات: قائدنا للأبد..حافظ الأسد، أو يكتبون تحت صورةٍ مهيبة للرئيس نبيه بري: يا ويلنا من بعدك، أو "عون راجع"، حتى لو قادهم إلى جهنم وبئس المصير، وأغلى ما نملك، بما فيها فلذات الأكباد، "فداء صرماية السيد". من أجل كل ذلك، يحرص "معلّمو" هذه الأيام على توريث أبنائهم سر مهنة "المعلم" والإحتفاظ بمقامه ومميزاته.