منذ أن تمدّد حزب الله في مسام المجتمع اللبناني نهاية ثمانينيات القرن الماضي، طُرح خيار الدولة الإسلامية في لبنان من بعض أركانه ومسؤوليه، ليتبيّن لهم فيما بعد بأنّ ابتلاع الدولة اللبنانية الشرعية مرّةً واحدة له مخاطر وصعوباتٍ جمّة، لعلّ أبرزها استحالة هضم جسم الدولة الضخم، لذا لجأ الحزب الخميني إلى الخيار الأفضل وهو القضم رويداً رويدا، فدخل البرلمان واعداً ناخبيه بخدمتهم بأشفار العيون، ومن ثمّ أبدى تعفُّفاً عن الإنخراط في الحكومات المُتعاقبة، أو شغل بعض المواقع الإدارية المدنية، مع بدء التسلُّل إلى المواقع الأمنية والعسكرية، بانتظار الفرصة المناسبة لِتقاسُم المقاعد الحكومية مع القطب الثاني في الثنائية الشيعية، الرئيس نبيه بري.

أمام محاولة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وبالتنسيق مع حكومة الرئيس السابق فؤاد السنيورة، التّعرض لشبكة إتصالات المقاومة الإسلامية عام ٢٠٠٧، ونقل ضابط أمني من مطار بيروت، للإشتباه بعلاقته مع حزب الله، جرى اجتاح مدينة بيروت بسلاح الحزب، وتمّ تدمير المقرات الحزبية والإعلامية لتيار المستقبل، وسقوط أكثر من سبعين قتيلاً، ومحاصرة الزعيم وليد جنبلاط في منزله في كليمنصو، لينتقل بعدها الجميع إلى الدوحة عاصمة قطر، وهناك تمّ إرساء اتفاق سياسي-أمني، يسمح لحزب الله وحلفائه بالسيطرة شبه التامة على معظم مفاصل الدولة اللبنانية الحسّاسة، وبعد انتخابات العام ٢٠٠٩، أصرّ فريق حزب الله مع التيار الوطني الحر على الحصول على الثلث المُعطّل في حكومة سعد الحريري، ما سمح بالإطاحة بها عند أول فرصة، فكانت بعدها حكومة اللون الواحد برئاسة نجيب ميقاتي، حتى جاءت فرصة السيطرة على موقع رئاسة الجمهورية، فرهَن حزب الله الموقع ووضعه نصب عينه، الجنرال ميشال عون أو لا أحد، وسارت السفن وفق ما تشتهي رياح الحزب ورغباته، وبات رئيس الجمهورية ميشال عون رهين المحبسين: حزب الله من جهة، وصهره جبران باسيل اللاهث وراء الصفقات والثروات والمناصب، من جهة أخرى، فضاع البلد بين شاقوف الفساد والمحاصصات ونهب المال العام، وسِدّان انتهاك سيادة لبنان واستقلاله.

تمكّن حزب الله من وأد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠١٩ في مهدها، وبعد استقالة حكومة سعد الحريري تحت وطأة الانتفاضة، اصطنع حزب الله مع حليفه التيار الوطني الحر دمية "أكاديمية" لرئاسة الحكومة، فكانت حكومة الدكتور حسان دياب ثالثة الأثافي التي قضت على ما تبقّى من قدرات وإمكانيات في الدولة اللبنانية المتهالكة.

اليوم موقع رئاسة الجمهورية بات شاغراً، ولا أمل في ملئه في المدى المنظور، حكومة تصريف الأعمال فاقدة الصلاحيات، عاجزة عن القيام بأي عمل، ومجلس نيابي مشرذم ومُعطّل بسبب الإنقسامات الحادة بين مكوناته، وبفعل التلاعبات الفاضحة التي تتحكم بمعظم كُتله المتناحرة، وهكذا يصول حزب الله ويجول في أنحاء البلد، مُستقوياً بدولته "الفتية"، والقادرة على تنفيذ كافة الطروحات والمشاريع "الحزب اللهية"، والتي تقفز بالشعب اللبناني من "انتصارٍ" إلى آخر، في ظلّ الإنهيار الشامل وازدياد مخاطر زوال النظام والكيان معاً، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد