الطائف، ذلك الإتفاق الذي أنهى برعاية عربية ودولية الحرب الأهلية بتشابكاتها الإقليمية والدولية، ثم تواطأ الممسكون بمفاصل السلطة المستولدة من رحم الطائف فيما بينهم على تجويفه وعدم استكمالهم ورشة الإصلاحات السياسية والاقتصادية المختلفة، وسط تراجع من رعاة الطائف العرب والأجانب عن متابعة واستكمال دورهم في تنفيذ بنود الإتفاق العريضة والتفصيلية وإيكالهم الرعاية للدولة السورية التي كان لها رؤيتها المتمايزة عن نظرائها فضلاً عن بصمتها على المشهد اللبناني والإقليمي . 

 


وقد تركت العملية العسكرية ضد ميشال عون الكثير من الآثار، فولدت ما سمي بالاحباط في الشارع المسيحي والذي عبر عنه بمقاطعة انتخابات ما بعد الطائف، ما استنبت نواباً مسيحيين بعشرات الأصوات بعيداً عن أي حيثية شعبية. ثم جرت تطورات كثيرة ساهمت في تأمين إعادة انخراط المسيحيين بقيادة البطريرك الراحل نصرالله صفير في الحياة السياسية .

 


توازياً مع ما تقدم أعلاه، كان حزب الله المنصرف الى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يبتلع ويقضم البيئة الشيعية ويتمدد في البيئات الاجتماعية والمناطقية الأخرى، حيث أن العداء لإسرائيل متأصل لدى غالبية اللبنانيين. وبدا  زهد حزب الله بالسلطة وابتعاده عنها، يضاعف من رصيده الشعبي لدى اللبنانيين عامة حتى وقع زلزال اغتيال رفيق الحريري المستولد من رحم الزلزال الأكبر المتمثل بالعراق عبر احتلاله وغزوه عام 2003
والحقيقة ان اغتيال الحريري، كان محاولة لاغتيال مرحلة الطائف وصناعه. فلبنان بعد اغتيال الحريري هو بدون شك ليس كما قبله. إنه الاغتيال الذي أطاح بترتيبات عربية وإقليمية ودولية كبرى لمصلحة  اندفاعة إيرانية جديدة منطلقة عبر منصات تبادل الخدمات بين الولايات المتحدة وإيران، انطلاقاً من غزو العراق إياه الذي لم يزل العرب خاصة والمنطقة عامة، يعيشون آثار تداعياته وارتداداته المتواصلة والمتناسلة من باب المندب الى لبنان.

 


ثم أتت ثورات الربيع التي توسلها البعض لنشر الدم والدمار والفوضى من صنعاء الى دمشق مروراً بمصر وتونس وليبيا والبحرين، في ظل كلام كثير يتردد في كواليس الأروقة الدولية عن نسخة خليجية لهذا الربيع. أما السودان فلم يستقر على بر الأمان رغم تطبيعه غير المفهوم مع إسرائيل، فيما تحاول تونس تلمس طريق التعافي من فترة حكم الاخوان. وفي العراق تراجع مقتدى الصدر الذي استسلم لمشيئة الإطار التنسيقي ومخرجاتهم الجديدة في الحكم، في حين أن ثورة تشرين اللبنانية انتهت الى 13 نائباً انفرط عقدهم ربطاً بعدم اتفاقهم على مرشح لرئاسة الجمهورية .

 


ثم جاء توقيع الترسيم بين لبنان وإسرائيل، والذي لم يعد سراً أنه نتيجة اتفاق إيراني - أميركي لعبت فيه قطر دور الوسيط ما أمن لها امتلاك استثمار حصة غاز بروم الروسية من حقول الترسيم جنوباً. انه الاتفاق الذي أرادته واشنطن للتخفيف من وطأة بوتين على أنابيب الطاقة، وكمقدمة ضرورية لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، ولا سيما أنه يسحب كل ذرائع إسرائيل في معارضة الاتفاق النووي بعد توقيعها للترسيم مع إيران عبر حلفائها في لبنان .

 


توازياً مع إرهاصات الترسيم برزت سويسرا كراعية لحوار بين مجموعات لبنانية تردد أنه حول مستقبل لبنان ونظامه السياسي، أي حول لبنان ما بعد الترسيم الذي ينبغي أن يؤمن الأثمان السياسية لذلك إنه الحوار الذي أثار ريبة جهات لبنانية عدة. فمنذ متى تلعب سويسرا مثل هذه الأدوار الصعبة دون توافقها مع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، أم أن سويسرا خرجت من حيادها لتكون قفازاً غير ناعم للولايات المتحدة بوصفها ضمانة الترسيم وصمام أمانه الوحيد.

 


بهذا المعنى تبدو الوجهة الاستراتيجية لمنتدى الطائف الذي نظمه سفير السعودية في بيروت وليد بخاري ليس لتقويض الحيادية السويسرية، بقدر التصويب على التقية الأميركية، ولا سيما أن بخاري الذي كثيراً نفي أي نية أو توجه لفرنسا بعقد مؤتمر حول الطائف، لم ينكر مثل هذا الأمر عن واشنطن .

 


وإذا كان اتفاق الترسيم مقدمة أميركية استراتيجية لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، فإن فوز تحالف الليكود في الانتخابات الإسرائيلية، مع ما تضمنه من تعهد بنيامين نتنياهو وتهديده بإلغاء الترسيم مع لبنان الذي لا يمكن أن يكتمل دون فوز الجمهوريين في الانتخابات النصفية الأميركية، فعلينا ألا نغفل أن ممزق الاتفاق النووي دونالد ترامب قد يمزق أيضاً براغماتية بايدن وإنجازه التاريخي في الترسيم، وعندها يصبح الكلام عن البراغماتية والتقية وهم وسراب . 
أما الحرص السعودي الحالي على إتفاق الطائف،  فليس لأنه إنجاز سعودي وعربي ودولي، بقدر ما يعود إلى الإهتمام  السعودي الدائم بأمن وإستقرار الشقيق المشاغب، والذي يجتاز مرحلة عاصفة تهدد كيانه وسيادته واستقراره، وتشكل تداعياتها خطراً على الأمن القومي العربي برمته .

 


 ختاماً نردد مع المطران بولس مطر الذي قال في لقاء منتدى الطائف الطائف اعطاكم وطن فحافظوا عليه .