عذراً... لقد ظننا وبعض الظن إثم، إنَّ الأثواب للأغنياء والرؤساء والزعامات مع ملحقاتهم من المسؤولين والنواب الذين اتقنوا فنَّ التجارة مع الناس وسط قوافل الفحول الجواهل، وإنَّ الفقراء لا يغطون إلاَّ عوراتهم حتى يتيحون لهم مُتع شهواتهم ورغباتهم، وكنَّا في أوساطهم نتعامل معهم على أنهم الأمناء على الأمانة، أعطيناهم ثقتنا، أوصلناهم كي لا تهتز صورهم التمثيلية، لكنهم برعوا في الأدوار..

 

 

 نحارُ فيهم وبسلوكهم ومسلكياتهم... في صلاتهم تجارة تنجيهم من عذابٍ أليم، وفي تجارتهم صلاة تنجيهم من فقر أليم... لربما التجارب تزيدنا في معرفتهم،، فبعضهم يخضب لحيته بالعرق لشدَّة دورهم الصعب والمتمثِّل بهم، حينها ندرك أنهم ينتمون إلى التاريخ، ويعيشون به، ويدورون في طرقاته وزواريبه وأحيائه، وتبقى صورتهم وصورهم في ذاكرتنا، والذاكرة تكبر على هذا المنوال، حتى استفقنا دغشة على كذب ما رأينا، فصدمنا الواقع، واهتزَّت صورتهم التمثيلية في أذهاننا، فباتَت أقل شأناً وإن علت موقعاً، حتى الأمس كانوا يقفون أمام مرآة التاريخ، ليروا أنفسهم متأخرين عن الركب وقد فاتتهم صلاة الشهادة، وما زالوا يلطمون صدورهم، ويُهشِّمون وجوههم، ويُعفِّرون بكلتا أيديهم تراب الشهداء ـ لا أبرئ نفسي ـ لكنها الدنيا، هكذا يقولون، ولكن لم يكن الحلم بالنسبة لنا قصيراً بقدر طولهم، ولم يكن طويلاً بقدر قِصَرِهم، فسرعان ما انزاحت الغيمة والغشاوة عن بصرنا وبصيرتنا، يستقوون على الدجاجة، حتى يمسكونها فيشقونها نصفين، ليأكلوا كبدها، شتَّان بين آكل أكباد الدجاج وبين آكل أكباد الأسود، فراعنا منهم ما راعنا من روعٍ فهزَّ كياننا وصدمنا، وأنَّ لحظة التفاجؤ تُرعب وتُذهل، وقد أروعنا وأذهلنا منهم ما وجدنا من عهرٍ وكذبٍ وبحثٍ عن زينة الدنيا طمعاً بالآخرة.

 

 

 لم تكن المخادعة بالنسبة لنا شطارة، بقدر ما هي قناعة بالنسبة لهم، لذا طفقنا نخصف من ورق النسيان، ومحونا من ذاكرتنا كل أثر من آثارهم، وشكرنا ربنا على حسن الاستبصار، ونحن نمشي في طريق العمر.

 

 

يقال أن تصل متأخراً خيرٌ من ألاَّ تصل، ربما وصلنا إلى الحقيقة متأخرين بعد أن تجافت علينا وتجافينا عليها، وفاتنا من عمر إذ ذهب أدراج الرياح بالوعود المتكررة، الشأن في ذلك، شأن الطيبين من الفلاحين والمؤمنين في تراب أرض الوطن والتاريخ والبلد والقرية ومشاتل التبغ وحقول القمح، لأنَّ حبة الله بمائة سنبلة، وكنا دراويش في حلقات الذكر، نصحو وننام على ذكر الله، ونسبِّحه كثيراً وندعو لمئات المؤمنين ممن ذكرناهم ونذكرهم بين الفجر والوتر ـ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً ـ ليأتي الصباح وتمسح الشمس كل الأسماء... ـ واترك البحر رهواً ـ لقد طويناهم كطيَّ الكتمان ورقةً سيئةً غير نزيهة، وبيننا وبينهم عهدٌ اشتريناه وهم من باعوه، ووعدٌ اقسمنا عليه قسماً غليظاً وهم من خانوه، وسنقذف في وجوههم كل أوجاع الأرض وعرق الفقراء وشفاه الجوعى وأحلام الطفولة، وسنطرد كل من وقف خلف كروم البسطاء ليصعد على أكتافهم، ومن تربَّع على أوجاعهم واعتاش على ماء أشجارهم كما اعتاشت السوسة على ماء الحياة ـ وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ـ   إنَّ مدرستنا التي ننتمي إليها مدرسة إمامنا الصادق (ع) علمتنا أنَّ شيعتنا معروفون بصدق الحديث وأداء الأمانة...