أولاً: ميثاق عام ١٩٤٣...


لو وضعنا جانباً فترة الإنتداب الفرنسي على لبنان والتي بدأت منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠، وحتى الاستقلال الذي أُعلن في ٢٢ تشرين الأول عام ١٩٤٣، لتبيّن لنا أنّ هذا البلد الذي اجترح كيانه ونظامه الإنتداب الفرنسي، ظلّ محكوماً بالتسويات، وما يرافقها عادة من اختلالات واضطرابات، أدّت في أكثر من مرّة إلى حروب أهلية مُتنقلة وثابتة، وكانت أولى هذه التسويات وأهمها تسوية العام ١٩٤٣ غداة الاستقلال عن الإنتداب الفرنسي، والتي انبثق عنها ما يُعرف بالميثاق الوطني، الذي أسّس لقيام الجمهورية اللبنانية الأولى، ولم يكن هذا الميثاق أكثر من تفاهم شفوي بين رئيس الجمهورية الراحل بشارة الخوري ورئيس الحكومة الراحل رياض الصلح، قبل أن يخرج إلى النور في البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح أمام مجلس النواب في السابع من شهر تشرين الأول عام ١٩٤٣، وهو كما يؤكّد الكاتب فواز طرابلسي، لم يُفصح سوى عن فصامٍ أساسي، إذ يؤكد المساواة القانونية والمدنية لجميع المواطنين بما هم مواطنون، بقدر ما يؤسّس للامساواتهم السياسية والاجتماعية والقانونية والمدنية بما هم رعايا (أهلون حسب النص الدستوري) ينتمون إلى جماعات دينية مُتراتبة، تتوازع حصصاً متفاوتة من السلطة السياسية والوظائف العامة، ومن ثمّ سعى الميثاق الوطني لتكملة وتصحيح الدستور في قضايا أساسية تتعلق بهوية البلد وعلاقاته العربية والدولية، ومشاركة المسلمين في بنية النظام السياسي، وظلّت فذلكة الميثاق الوطني بما هي أعراف، قائمة على حمل ضمانات سياسية للمسيحيين، مقابل وعودٍ سياسية واجتماعية وثقافية للمسلمين، وبذلك تكرّس مع تسوية العام ١٩٤٣ النزاع بين الدستور والعُرف المُتجسّد في الميثاق الوطني.

 

ثانياً: تسوية العام ١٩٥٨...

مع نهاية عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، وما رافقها من اضطراباتٍ في علاقات لبنان العربية والدولية، مُترافقة مع سعي الرئيس شمعون لتجديد ولايته الرئاسية، انطلقت الانتفاضة الشعبية في مختلف المناطق، في حربٍ شبه أهلية، ولم تُفلح محاولات شمعون بالضغط على اللواء فؤاد شهاب باحتلال مواقع الثوار في العاصمة بيروت وتنظيفها، وبعد ذلك نزلت وحدات من قوات المارينز الأميركية في شاطئ خلدة جنوب بيروت، ولحقتها بعد أيام تعزيزات وصلت إلى خمسة عشر ألف جندي، مدعومة ببارجة حربية تابعة للأسطول السادس، ليتضح بعد ذلك أنّ الأسطول السادس إنّما جاء إلى بيروت لفرض خليفة لشمعون، لا لمناصرته ضد خصومه، وهكذا اجتمع المجلس النيابي في ٣١ تموز عام ١٩٥٨، وانتخب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وكان واضحاً أنّ التسوية كانت بتفاهمٍ مصريّ مع الإدارة الأميركية، وقام على إثرها الرئيس رشيد كرامي بتأليف حكومة من ثمانية أعضاء، اعتُبرت مُنحازة  فدعا حزب الكتائب إلى إضرابٍ عام، واندلعت أعمال عنفٍ تميّزت بالصدامات الطائفية المسلحة، والخطف على الهوية، فاستقالت الحكومة، وخلفتها حكومة رُباعية: رشيد كرامي وحسين العويني عن المسلمين، وبيار الجميّل وبيار إدّة عن المسيحيين، وانعقدت التسوية تحت شعار: لا غالب ولا مغلوب.

 


ثالثاً: اتفاق الطائف...


وقّع النواب اللبنانيين في ٢٢ من شهر تشرين الأول عام ١٩٨٩ اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية التي كانت مُستعرة على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً، ووضع البلد على طريق السلم والأمان والاستقرار والإعمار،  ومهّدت وثيقة الطائف لوضع حلٍّ للأزمة اللبنانية على مرحلتين: قيام الجمهورية اللبنانية الثانية، وهي مرحلة انتقالية إلى جمهورية ثالثة، تُلغى فيها الطائفية السياسية، وجرى تعديل المادة ٩٥ من الدستور، من أجل إلزام أول مجلس نيابي مُنتخب بإنشاء هيئة خاصة لهذا الغرض، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن  بفضل تقاعس المنظومة السياسية الفاسدة التي تولّت حكم لبنان تحت إشراف الوصاية السورية على لبنان، والتي سعت إلى تدبير "الترويكا" الطائفية، والتي نسجت علاقات قِوى مأزومة على الدوام.

 


مرّت الآن ثلاث وثلاثون عاماً على ولادة اتفاق الطائف، الذي أعطى للّبنانيّين دستوراً جديداً، ووعداً دائماً بالخروج من شرنقة الطوائف، إلى مفهوم المُواطنة، بدلاً من الفردية والفئوية والعنصرية، وبعكس ذلك تحكّمت بمصير اللبنانيين سلطة سياسية متواطئة على الفساد والمحاصصات ونهب المال العام، والإستئثار بالسلطة، واستمدّت قوّتها للأسف الشديد من عهد الوصاية السورية، منذ توقيع اتفاق الطائف حتى العام ٢٠٠٥، تاريخ خروج القوات السورية من لبنان، لِتخلفها بعد ذلك سلطة الوصاية الإيرانية، بواسطة سلاح حزب الله غير الشرعي، وهذا الحزب لا يرى في اتفاق الطائف سوى سدٍّ منيع في وجه مشروعه الرامي لوضع يده على البلد بكامله، وإلحاقه بالسياسة الإقليمية للجمهورية الإيرانية، لذا لا ينفكّ حزب الله وحلفاؤه ومُناصروه عن التصويب على هذا الإتفاق تمهيداً للإطاحة به، واستيلاد تسوية جديدة تقضي على ما تبقى في لبنان من مظاهر سيادة واستقلال.

 


في هذه الأيام الحالكة، ولبنان في مهب التجاذبات الإقليمية والدولية، كيانه ونظامه مُهدّدان بالزوال،  تدخلت المملكة العربية السعودية للدفاع عن لبنان، عبر الدفاع عن اتفاق الطائف، باعتباره خشبة الخلاص للبنان واللبنانيين، لسيادة لبنان واستقلاله وانتمائه العربي وحياده الإيجابي، وهي بذلك تكون قد وضعت الإصبع على الجرح، الذي لا بدّ من علاجه قبل فوات الأوان.